الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (27) النزوعات الأولية والعواطف المتولدة منها وخطورة تشويهها إلى عكس ما خلقت له

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (27) النزوعات الأولية والعواطف المتولدة منها وخطورة تشويهها إلى عكس ما خلقت له

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 5-10-2014

السنة الثامنة

العدد: 2592

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية: الفصل الخامس:    

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (27)

النزوعات  الأولية والعواطف المتولدة منها

وخطورة تشويهها إلى عكس ما خلقت له

نرجع إلى أصل العواطف، وهل توجد نزوعات  أساسية، أى عواطف أولية، وعواطف ثانوية؟ وكيف يتولد هذا من ذاك؟

ابتداء: سوف اكتفى بما أورده بلوتشيك شروطا لاعتبار أية عاطفة أولية، ولى تحفظ على توصيفه ومع ذلك نبدأ بها.

 حتى نصف عاطفة بأنها “أولية” علينا أن نتبين فيها ما يلى:

  1. أن تكون ذات صلة بالعمليات التكيفية البيولوجية الأساسية
  2. أن توجد بشكل أو بآخر فى كل مستويات التطور
  3. ألا يكون تعريفها معتمدا على ارتباط محدد بتركيب نيرونى أو جسدى
  4. ألا يعتمد تعريفها على الاستبصار الذاتى
  5. أن تتميز أساسا بارتباطها بسلوك هادف :الاستجابة لمثير ذى فاعلية.

وبرغم اجتهاد  بلوتشيك فإنى قد تحيرت:

  • كيف يمكن رصد عاطفة ما أنها كانت ومازالت موجودة فى كل مستويات التطور؟
  • وهل يمتد ذلك إلى الأحياء وحيدة الخلية مثلا، أم نبدأ البحث فى السلسلة بما يمكن رصده بأى طريق مباشر أو غير مباشر؟
  • وأين دور الاستبصار الذاتى إلا فى الإنسان ؟
  • وما هى المحكات التى تميز السلوك الهادف من غيره، وفى أى وقت يتم تحديد أنه هادف فعلا (حقق غرضه)، حالا ؟ أو بعد كم من الوقت؟

مع تحفظى على هذه العوامل البدئية، قبلتُ  ما أورده بلوتشيك كنقطة انطلاق لما أسماه “مشاكل” التكيف الأساسية، ربما نبدأ بالتعرف على بعض أصل ما نسميه عواطف حاليا بأسماء تناسب ما آلت إليه، وفيما يلى أهم ما أورده بلوتشيك فى هذا الصدد:

أولا: الهيراركية Hierarchy

هذا التوجه يشير إلى أنه فى أية جماعة توجد فئة أكثر قوة أو أكثر مهارة ، ويتحقق التكيف إما بالنضال من أجل التفوق فالسلطة، وإما بالتسليم للأقوى، والسبيل الأول يحتاج إلى الهجوم والغضب، أما السبيل الثانى فيصاحبه الخوف والانسحاب.

ثانيا: الإقليمية (التوطـّن) Territoriality

يشير هذا النزوع إلى أن أى كائن حى يتعلـّم فيعـًلَم  أنه ينتمى إلى مكانٍ ما، موقعٍ ما، ومن وجهة نظر تطورية: فإن الموْطن هو المكان الذى يجد فيه الكائن الضروريات اللازمة للبقاء حيا، كما يجد فيه الأمان من المهاجمة والافتراس، ويعتبِر الكائن أنه متمكن إذا ما كانت حدود موطنه مؤمَّنة ضد اختراقها من أى مُهاجم أو مُغير.

ثالثا: الهوية Identity

لا تتحقق الهوية – من وجهة نظر تطورية – إلا بالانتماء إلى جماعة من نفس النوع، ذلك أن الكائن الحى لا يمكنه أن يحافظ على بقائه  إلا إذا تماهى مع جماعته، وهذا البعد الذى يمكن أن يسمَّى بعدا اجتماعيا يترتب عليه كثير من أنواع السلوك الاجتماعى  مثل الصيد التعاونى، والدفاع الجماعى، والتواصل بين الافراد والمجموعات، ومثل هذه الهوية لا تمحو الذات الفردية وإنما تدعمها.

رابعا: الوقتية Temporality  

لكل نوع من الأحياء مدى عمر معين، بمعنى أنه مهما طال عمره فإن له نهاية، وهذه الحقيقة تصل غالبا إلى كل الأحياء بشكل أو بآخر (1)، بما تستتبعه من توقع النهاية بشكل أو بآخر، بما لذلك من آثار وتداعيات.

وبعد

ففيما عدا مشكلة “الوقتية”، والتى تطلبت منى استبعاد احتمال الشعور الواعى بحتمية البقاء لزمن محدود عند أغلب الأحياء، فإن النزوعات الأخرى تتطور غالبا إيجابيا إذا ما سارت فى مسارها الطبيعى: لتصبح آليات للتفاعل بين أفراد الجماعة وبعضهم، بل وبين الجماعات أيضا، بما يمكن أن ترجعه إلى ما سُـمِّـىَ باسم “العقل الوجدانى الاعتمالى”(2)  فكل من “الهيراكية” و”الهوية” (كما عرفناها هنا) هى وسيلة جيدة لتنظيم الجماعة للحفاظ على البقاء، أما التوطن فقد بدا لى أكثر وضوحا وألزم تحقيقا، وهو غالبا الأساس لعاطفة “الوطنية” أو “حب الوطن”، أما فكرة الوقتية التى فهمتها باعتبارها الشعور بمحدودية العمر فى مقابل استمرارية الوجود، فقد  بدت  لى – كما ذكرت – أنها تحتاج إلى وعى  خاص أو ما أسميه الوعى بالوعى، وهو الذى لا يتوفر إلا للكائنات الأعلى وبالذات للإنسان، ولا أظن أنه يحتاج فقط للوعى بالوعى، وإنما أيضا لدرجة من الدراية بحركية الزمن وحتمية زحفه (3) .

وفيما يلى مناقشة لكلٍّ على حدة:

أولا:

نبدأ بالهيراكية ، فلعل ما يصاحب صراع السلطة من دوافع فانفعالات تكاد تنفصل فى كثير من الأحيان عن ما تحققه السلطة لمن يحصل عليها، يرجع فى أصل أصله إلى هذه الحاجة الأساسية لتنظيم الجماعة بين قائد وتابعين، وبالتالى يصبح الزعم بالمساواة العمياء هو ضد الطبيعة التطورية، ولكن هذا لا يبرر طبعا استعمال أساليب غير مشروعة (وغير تطورية!!) للحصول على السلطة، ومن هنا أستطيع أن أجزم أن قوانين التفوق عند الحيوانات، بما فى ذلك علامات الإذعان عند الصراع بين ذكرين، هى أرقى من كثير من صور الصراع على السلطة بين البشر هذه الأيام، وكأن المفروض ونحن نـُرجع “عاطفة” السلطة (إن صح التعبير) إلى أصلها أن نتعلم كل قوانينها البقائية حتى لا ينحرف بنا السُّعار إلى ما هو ضد التطور حين يسود السيد (الأعلى هيراركيا: الزعيم، الرئيس، القائد، الدولة الأقوى، صاحب المال الأكثر) بأساليب غير صالحة لاستمرار النوع أو لاستمرار الحياة، وكذلك حين يستسلم التابع حتى ينسى حقوقه (البقائية) الأساسية ضَـعـْـفـًا أو انسحاقا أو جبنا، وكأنه قد رضى أن يصبح  من نوع أدنى من النوع الذى ينتمى له أهل السلطة.

ثانيا:

أما عن نزوع التوطن،  فقد بدا لى أكثر هذه العوامل الأساسية الأربعة للتطبيق كمثل للمسار نحو التطور الإيجابى، فالأرجح أنه أصل ما يسمى عاطفة “الوطنية”، ويمكن إرجاع الصراع بين مختلف الأوطان أساسا إلى هذا الأصل، خاصة وهو يرتبط بالأرض عيانيا وليس فقط بمن يسكنها، ولا بمن يحكمها، وتكاد تنطبق كل المواصفات التى ذكرت هنا فى مسألة التوطن بالنسبة للأحياء الأدنى، تكاد تنطبق حرفيا على “حب الوطن” الشائع جدا هذه الأيام، حتى إذا وصل إلى درجة ما يسمى الشوفينية (4)، فإذا كان التوطن هو أصل حب الوطن لأنه يوفر الضروريات للغذاء والأمن كما ذكرنا، فإنه – مثلما آلت الهيراكية الطبيعية إلى السلطوية القاتلة – قد يتشوه إذا تجاوز دوره كعاطفة بقائية ليصبح  عاملا انقراضيا بشكل أو بآخر، حيث عادة ما يترتب على الصراع الشوفينى الأعمى إفناء بين أفراد نفس النوع، و لعل التطهير العرقى هو أبشع صوره، فإذا ارتبط هذا التشويه لأصل عاطفة التوطن ليصبح حافزا للقضاء على أفراد من نفس النوع مبررا باختلاف الموطن مدعوما بما تشوه من  النزوع للسلطة ، أقول إذا ارتبط ذلك بالمبالغة السلبية فى الانتماء إلى جماعة بذاتها منفصلة عن بقية المجتمع أو حتى النوع، مسيـَّـرة بتميز عرقى خاص أو سلطوى ساحق، فإنها تصبح عوامل انقراض لا عواطف بقاء.

5-10-2014_1

5-10-2014_2

ثالثا:

أما تطور الهوية فهو ينطلق من  النزوع الأولى لترجيح ضرورة  الانضمام إلى جماعة طول الوقت بما يمثل العقل الجمعى، أو حتى عقل القطيع، إلى محاولة التميُّز فى مجموعات فأفراد لا يتحكم فى علاقاتها نزوعات الهيراكية وانفعالات السطة فحسب، وإنما توفر الأمان والتكافل بين الافراد معا بشكل أو بآخر، لكن يبدو أن الأمور تتطور مع التصعيد على سلم التطور إلى فرص التقسيم إلى جماعات مختلفة ، لكنها – فى الظروف الطبيعية– متكافلة بالضرورة، وخاصة فى أوقات الضغوظ والشدائد ، ويظل البندول يترجح بين التأكيد على الذات (لتحقيق الهوية الفردية)،  والانتماء للجماعة للتكيف مع المحيط والتكافل مع الجماعات الأخرى: دون صراع معطل إلا أن التوجه السلبى المحتمل لهذه العاطفة إنما يؤدى بها إلى مآل سلبى حين تغلب على بعض الجماعات أو المجتمعات أو الدول تقديس قيم مغتربة تبالغ فى تضخيم الذات الفردية على حساب الهوية الجماعية، وأعتقد أن النزوع السابق، أعنى التوطن، يساهم إيجابيا بصورته السوية فى المسار التطورى السليم، كما يؤدى فى صورته الشوفينية السلبية إلى دعم سلبيات التمييز الطبقى والعنصرى ومضاعفاتها.

رابعا:

أما بالنسبة لنزوع الوقتية، والذى استبعدت أن يصل إلى أية درجة من الدراية (5)  إلا فى الإنسان بدرجات مختلفة، فالأرجح عندى – إن صدق فرض بلوتشيك- أن يكون له تأثير غير مباشر عادة لكنه يقوم طول الوقت بكل من (1)  تنشيط كل البرامج البقائية للحفاظ على الحياة، (2) وأيضا على النوع (بالتكاثر)، (3) بالسعى إلى الامتداد فى وعى أكبر وأكثر تناسقا، وعى لا يرتبط بالضرورة بعامل الزمن ، والأرجح عندى أن كل الأديان قد حرصت – كل بطريقته– على المصير الإيجابى لهذا النزوع الطبيعى باعتباره  برنامجا بقائيا للنوع، وارتقائيا للفرد، ومن ثم للنوع (6) ، أما حين يتشوه هذا النزوع، فإن النتيجة هى إما أدْْلـَـجَة   (7)هذه العاطفة الأساسية (الإيمان) لتصبح دينا مصمتا مغلقا، وإمّـا إنكارها تماما، بمعنى إنكار النهاية بالموت الذى قد يتجسد تحديدا فى ضلال الخلود (8) المدعم عادة بكل سلبيات السلطة، وأوهام المبالغة فى قيمة الهوية الفردية، والتوطن معا، مما يستتبع محق الآخر، ونفيه من موطنه أو إذلاله فى موطنه بكل الأساليب القهرية والاستغلالية والاستعمالية دون استبعاد الحروب الاستباقية والاحتلالات الاستيطانية، ..إلخ.

الملاحظ عند الإنسان المعاصر، بعد أن تحول الدين إلى أيديولوجيا، وانفصل عن الاصل البيولوجى والعطاء الكونى معا،  أنه لم يطور هذا النزوع – لو صح الفرض- إلى ترسيخ الإيمان كأرقى عاطفة بقائية إنسانية إذْا هى نجحت فى أن تحافظ على استمرار الحياة وازدهارها، ذلك أن  الفرد فى أحوال النمو السوية وهو يحافظ على حياته طول الوقت، لا تغيب عنه نهايته كفرد، مع وعى نسبى أن هذه النهاية المحسومة هى لصالح النوع، وفى نفس الوقت هو يمارس جدله الإبداع ليحقق امتداده فى اتساقه مع وعى أكبر ممتد بلا نهاية فهو حركية الإيمان.

5-10-2014_3

5-10-2014_4

الخلاصة

أوردت هذه النماذج لأبين أن العواطف، مهما كانت أولية وأساسية وضرورية وتطورية ليست فى ذاتها حسنة أو سيئة، إيجابية أو سلبية، وأنها فى الأحياء التى لم تصل إلى درجة التدخل الغبى فى قوانين التطور – مثلما حدث فى حالة الكائن البشرى–  تظل إيجابية عادة فى الظروف الطبيعية، وبالتالى فإن ما لحق بالإنسان  المعاصر من تدخل سلطوى، شوفينى، عرقى، إنكارى سخر أغلب هذه النزوعات الطبيعية لحفظ الحياة واستمرار التطور للقيام بعكس ما خلقت له كما بيَّـنا.

انقلبت “الهيراكية” إلى السلطة الفردية الظالمة القهرية،

 وانقلب “التوطن” إلى شوفينية تطهيرية عرقية ساحقة ،

وانقلبت “الهوية”  إلى الاغتراب وشيزيدية (9)  تضخيم قيم تحقيق الذات والحرية الفردية

وانقلبت “الوقتية” إلى أدْلجة الإيمان فى دينٍ ما أو إنكار الموت أساسا فى ضلال الخلود (10)

 ولو زادت هذه الانقلابات وانتشرت واستمرت، فإن الاحتمال الأرجح، مثل كل من خالف برامج التطور التى خلقها الله لنبقى ونرتقى، هو انقراض هذا الجنس الرائع نتيجة لعبث غباء من انفصل منه عن أصله.

 ولا عزاء للنظام العالمى الجديد.

[1] – كما يزعم بلوتشيك

[2] – Emotionally Processing Mind

[3] – لعل تحفظى هذا مرتبط بنقدى لملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ، ولاحقا لمقارنة ضلال الخلود فى هذه الملحمة بأوهام الخلود فى حضرة المحترم لمحفوظ أيضا.

[4] – (الشوفينية (بالإنجليزية chauvinism وهى المغالاة فى التعصب، ففى حال التعصب القومى وحب الوطن يعتبر الشوفينى وطنه أفضل الأوطان وأمته فوق كل الأمم وخصوصاً عندما تكون هذه المغالاة مصحوبة بكره للأُمَم الأخرى. وهو مصطلح سياسى من أصل فرنسى يرمز إلى التعصب القومى المتطرف، وتطور معنى المصطلح للدلالة على التعصب القومى الأعمى والعداء للأجانب.

[5] – Awareness

[6] – أنظر “الأسس البيولوجية للإيمان” نظرية الكاتب

[7] – ينقلب أيديولوجيا جامدة وليست طريقا للمعرفة الإبداعية

[8] – أنظر نقد الكاتب فى كل من: (1) ملحمة الحرافيش “دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق”. (2) النقد المقارن بين ساحر الصحراء وابن فطومة “الأسطورة الذاتية: بين سعى كويلهو، وكدْح محفوظ” (3) النقد المقارن بين ملحمة الحرافيش وحضرة المحترم. “تشكيلات الخلود بين “ملحمة الحرافيش”، و”حـضرة المحترم”

[9] – شيزيدى Schizoid

[10] – Delusion of immorality جلال صاحب الجلالة فى ملحمة الحرافيش، وفى حضرة المحترم (نجيب محفوظ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *