الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف‏ ‏التفكير‏ (9) :‏ ‏الاضطراب‏ ‏الجوهرى ‏للتفكير

ملف‏ ‏التفكير‏ (9) :‏ ‏الاضطراب‏ ‏الجوهرى ‏للتفكير

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 2-3-2014

السنة السابعة

العدد: 2375

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الثالث: ملف‏ ‏التفكير‏ (9)

اضطراب‏ ‏عملية‏ ‏التفكير‏ ‏

‏ ‏الاضطراب‏ ‏الجوهرى  ‏للتفكير

حين‏ ‏تفتقر‏ ‏عملية‏ ‏التفكير‏ ‏إلى ‏التنظيم‏ ‏والجذب‏ ‏والترتيب‏ ‏والغائية، ‏تتباعد‏ ‏الأفكار‏ و‏تفقد‏ ‏فاعليتها‏ ‏وقدرتها‏ ‏على ‏التماسك‏ ‏الضام‏ ‏اللازم‏ ‏للوصول‏ ‏إلى ‏الهدف‏، ‏دون التزام بتحديد الهدف ظاهرا، ويسمى هذا الخلل بصفة عامة الاضطراب الجوهرى فى التفكير(1)، وتسميته‏ ‏باسم‏ “اضطراب‏ ‏شكل‏ ‏الفكر‏”هو‏ ‏خطأ‏ ‏شائع‏، ‏لأن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏الشكل‏ ‏دون‏ ‏الموضوع‏، ‏وإنما‏ ‏يسمى ‏الاضطراب‏ ‏جوهرى ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏الخلل‏ ‏فى ‏جوهر‏ ‏عملية‏ ‏التفكير‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏هى ‏عملية‏ ‏هادفة‏ ‏مترابطة‏ في ‏تبادل‏ ‏منتظم‏، ‏فالأمر‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏تغير‏ ‏فى ‏شكلها‏ ‏أو‏ ‏انحراف‏ ‏عن‏ ‏مسار‏ ‏معين‏.‏

لكن هناك ملاحظة مبدئية هامة، وهى أن التفكير السائد فى الأحوال العادية، وخاصة فى ثقافتنا، ليس دائما ولا غالبا هو بهذا التحديد وهذه الغائية، بل لعل العكس هو الصحيح، وذلك أن الملاحظ هو أن التقريب وارد، وفائض الأفكار التى تدور مقاربة للهدف الغامض عامل مساعد فى حركية الفكر فى كثير من الأحيان، وعلى ذلك تصورت أن درجة من هذا التفكيك النسبى تعمل كنوع من الميكانزمات الدفاعية اللازمة للتواصل المتعدد القنوات برغم غلبة قناة ظاهرة (وقد أرجع لهذا الفرض لاحقا(2)

 الاضطراب‏ ‏الجوهرى ‏فى ‏التفيكر‏ ‏هو‏ ‏اضطراب‏ ‏أساسى ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏عملية‏ ‏التفكير‏ ‏نفسها‏، ‏بما‏ ‏تتصف‏ ‏به‏ ‏ويميزها‏، ‏قد‏ ‏اختلت‏ ‏وبالتالى ‏أصبحت‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏الوفاء‏ ‏بوظيفتها‏. ‏وهذا‏ ‏الاضطراب‏ ‏الجوهرى ‏للتفكير‏ ‏يعنى ‏العجز‏ ‏عن‏ ‏تكوين‏ ‏المفاهيم‏ ‏وعن‏ ‏استعمالها‏ ‏فى ‏منظومة‏ ‏تفكيرية‏ ‏تشمل‏ ‏احتواء‏ ‏المعنى ‏واحتمال‏ ‏توصيله‏ ‏ويرجع أساسا وابتداءً إلى تراخى الترابط‏ ‏حول‏ ‏الفكرة‏ ‏المحورية‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏.‏

ويلاحظ‏ ‏الفاحص‏ ‏هذا‏ ‏الاضطراب‏ ‏أثناء‏ ‏المقابلة‏ ‏بصفة‏ ‏عامة‏ ‏كما‏ ‏يمكنه‏ ‏أن‏ ‏يكتشفه‏ ‏بدقة أكبر، ‏باستعمال‏ ‏اختبارات‏ ‏التفكير‏ ‏التجريدى‏ ومنها اختبارات الأمثال العامية (3)

حين يغيب ‏الترابط‏ ‏الطبيعى ‏فى ‏سلسلة‏ ‏التـفـكير‏ ‏وتماسكها، يضيع‏ ‏التوجه‏، ‏إذ يختفى ‏الهدف‏ ‏حتى ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏هدف‏ ‏أصلا‏، ‏وبالتالى ‏فلا‏ ‏وصول‏ ‏إليه‏. ‏ومن‏ ‏غير‏ ‏المناسب‏ ‏أن‏ ‏يفترض‏ ‏الفاحص‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفروض‏ ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏عجز‏ ‏عن‏ ‏فهم‏ ‏كلام‏ ‏أو‏ ‏تفكير‏ ‏أو‏ ‏مقاصد‏ ‏مريضه‏، ‏ففى ‏كثير‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏ ‏يمكن‏ ‏رصد‏ ‏مثل‏ ‏هذا‏ ‏اللاترابط‏ ‏مع‏ ‏بعض‏ ‏المبدعين‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏الإبداع‏ ‏الذى ‏يسمى “الحداثة‏” ‏وما‏ ‏شابه‏ ‏ذلك‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏بعض‏ ‏التفكير‏ ‏الفلسفى ‏قد‏ ‏يتصف‏ ‏بنفس‏ ‏الغموض‏ ‏الظاهر‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏عظيم‏ ‏عمقه‏ ‏الحقيقى‏. ‏ولذلك‏ ‏ففى ‏الحالات‏ ‏الباكرة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏بذل‏ ‏مجهود‏ ‏حقيقى ‏وجاد‏ ‏مع‏ ‏أكبر‏ ‏قدر‏ ‏من‏ ‏الصبر‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏على ‏ما‏ ‏لا‏ ‏نفهم‏ ‏أنه‏ “لا‏ ‏ترابط‏”.‏

حجم التفكك اللازم للحكم بالاضطراب:

تـعتبرالدرجات‏ ‏الجسيمة‏ ‏من‏ ‏فقد‏ ‏الترابط‏ ‏أعراضا‏ ‏صريحة‏ ‏لها‏ ‏وصف‏ ‏وتسميات‏ – كما سيأتى – ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يُختلف‏ ‏عليها‏، ‏ولكن‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏تراخى ‏الترابط‏ ‏يسيرا‏، ‏قد‏ ‏يختلط‏ ‏الأمر‏، ‏وقد‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تفرقة‏ ‏تبين‏ ‏إذا‏ ما ‏كان‏ ‏ذلك‏ ‏ناتجا‏ ‏عن‏ ‏مرض‏ ‏أم‏ ‏أنه‏ ‏بداية‏ ‏إعادة‏ ‏ترابط‏ ‏على ‏مستوى ‏أعلى (‏إبداع‏‏)‏

التفرقة‏ ‏بين‏ ‏اللاترابط‏ ‏الإيجابى (‏التعتعة = المرحلة‏ ‏الباكرة‏ ‏فى ‏عملية‏ ‏الإبداع‏) ‏وبين‏ ‏اللاترابط‏ ‏السلبى ‏الذى ‏يتمادى ‏حتى ‏التفسخ‏ (‏فى ‏حالة‏ ‏الفصام‏ ‏مثلا‏) ‏هى ‏تفرقة‏ ‏شديدة‏ ‏الأهمية‏ ‏وخاصة‏ ‏فى ‏الحالات‏ ‏الباكرة‏، ‏ويمكن‏ ‏التفريق‏ ‏بين اللاترابط‏ ‏الإيجابى ‏والسلبى ‏كما‏ ‏يلى‏:‏

2-3-2014

أ) ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يفحص‏ ‏تراخى ‏الترابط‏ ‏فى “سياقه‏”، ‏و‏‏هل‏ ‏هو‏ ‏سياق‏ ‏مرضى اكتشفه فاحص أثناء مقابلة مريضه أو الحوار معه وهو يشكو، ‏أم‏ أنه – مثلا – قد ورد فى ‏سياق‏ ‏إبداعى يصفه مبدع ما فى شهادة نقديه كما قدمنا منذ نشرتين؟

ب‏) ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏فحص‏ ‏المراحل‏ ‏التالية‏ ‏لهذا‏ ‏التراخى، ‏هل‏ ‏نتج‏ ‏عنه‏ ‏إبداع‏ ‏قادر ‏على ‏التواصل‏ ‏أم‏ ‏تمادَى ‏حتى ‏التفسخ‏ ‏والإعاقة؟ وبالتالى فقد لا يمكن الحكم عليه “الآن” (فى البداية) ولكن على الطبيب أو المعالج أن يضع هذا الاحتمال فى الاعتبار خاصة فى الحالات البادئة، وعلى حسب قدر الصبر والسماح، وعوامل أخرى مثل الاستعداد والخبرات السابقة ومدى تماسك الشخصية قبل المرض، علما بأنه يمكن للطبيب أن يساهم فى مآل ايجابى محتمل، ليس بالضرورة إبداعا متميزا، وإنما نحو أية درجة من إعادة تشكيل أعلى مهما ضؤل حجمه وأيا كان مجاله.

جـ‏) ‏إن‏ ‏فحص‏ ‏الأعراض‏ ‏الأخرى ‏المصاحبة‏ ‏لهذا‏ ‏التفكك‏ ‏تساعد‏ ‏على ‏تحديد‏ ‏ما‏ ‏إذا‏ ‏كان هذا اللاترابط‏ ‏إيجابيا‏ ‏أو‏ ‏سلبيا‏، وهذا يرتبط بفقرة (أ) بشكل أو بآخر، ولكن التركيز هنا على نوعية وجود هذه الأعراض وليس على مجرد وجودها.

د) ‏النظر فى مدى قدرة الشخص على توظيف هذا اللاترابط فى تدعيم الوعى البينشخصى حسب درجة تحمل الغموض عند المتلقى (الفاحص هنا)، أى ضرورة فحص محاولة التواصل والثقة عند الشخص الذى يمر بهذه المرحلة.

جدول يبين الفرق بين ضعف الترابط فى حالتى المرض إلى التفسخ،

مقابل التعتعة إلى إعادة التشكيل فى الإبداع

تراخى الترابط(عرض مرضى) تراخى الترابط(خطوة فى عملية الإبداع)
1- تتراخى روابط التفكير العادى فتتباعد وحداته دون قصد ودون هدف وعادة دون أن يلاحظ المريض ذلك. 1- تتراخى روابط التفكير العادى فينفرج التفكير كنقطة بداية وتحرر، مع درجة من حدة التيقظ دون المبالغة فى الخوف أو المسارعة بالتحديد
2- بلا توجه غائى محدد اللهم إلا فى عمق السيكوباثولوجى لتحقيق هدف المريض النكوصى أو الهروبى.  2- التوجه غائى على مستوى أعمق وهو توجه عام دون تحديد الهدف الخاص مما قد يحمل إرهاصات مخاض الابداع حسب الخبرة السابقة واحياناً لاول مرة.
3- التمادى فى التباعد (الانفراجية) على طول الخط مع تزايد الغموض والتشتت. 3- التباعد يتراوح حدة وتراجعا مع احتمال بدايات حركة ضامة غامضة واعدة.
4- وجود أعراض مرضية مصاحبة ومكملة لصورة المرض، بدرجات مختلفة من المعاناة والإعاقة. 4- لا توجد أعراض مرضية مصاحبة، وإن ظهرت وجدانات البهر او الدهشة أو إرهاصات الوعد لكنها لا تصل إلى درجة المعاناة الشديدة أو الإعاقة.
5- وجود علامات مرضية أخرى فى عملية التفكير نفسها، أو فى محتوى التفكير حتى لو كان مرضيا فمثلا تنقلب المنظومة الضلالية المتماسكة إلى ضلالات غير مترابطة وغير متسقة. 5- لا تظهر بالضرورة بدايات اعادة التشكيل وإن لاحت ملامحها مع تراجع درجة التفكيك وتضاؤل الغموض فتتناسب عكسيا مع التخليق الجديد.
6- قد يتمادى التفكير إلى التفسخ حتى التناثر أو قد يتجمع فى جزر حول ضلالات متفرقة، أو قد يختفى فى منظومة ضلالية متماسكة تحل محله كليا أو جزئيا. 6- يتم التشكيل الجديد حسب الاداة والأبجدية والاستعداد والفرص من أول التغير النوعى الذاتى حتى الانتاج الابداعى المحدد من أى نوع كان

[1] – خطر لى أن أنحت كلمتين كما أفعل نادرا، أثرى بها لغتى وأختصر وأسهل كتابتى، لكننى خفت من السخرية والرفض، فلست بقوة المرحوم د. أحمد مستجير حين نحت نوم الريم يصف به النوم النقيضى Paroxysmal Sleep “حركة العين السريعة REM” ولا أنا فى شباب إبنى محمد حين نحت لفظ “رمك” لرسام المخ الكهربائى، ومع ذلك دعونى أضعهما فى الهامش فى انتظار تشجيعكم، أما لغتى الجميلة فأنا أعرف رحابة صدرها واحتياجها لأبجدية سهلة جديدة:

اللفظ الأول:هو “ضجف” إشارة إلى الاضطراب الجوهرى للتفكير.

واللفظ الثانى: هو “تعف” ليعنى تعتعة التفكير.

[2] – كما فهمت من كتاب الذى أنجزه ابنى محمد بعنوان “خطاب الحياة اليومية بين الفائض اللفظى والاستعانة”.

[3] – وقد وضعت شخصيا اختبارا خاصا من واقع ثقافتنا سوف اثبته بعد عرض الأعراض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *