الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة التحرير : وما زال نجيب محفوظ يعلمنا.. آداب الاختلاف واحترام الآخر وحب الله

تعتعة التحرير : وما زال نجيب محفوظ يعلمنا.. آداب الاختلاف واحترام الآخر وحب الله

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 3-10-2012

السنة السادسة

 العدد:  1860

 

  تعتعة التحرير

وما زال نجيب محفوظ يعلمنا.. آداب الاختلاف واحترام الآخر وحب الله

طلب منى صديق طيب قرأ ما جاء فى مقالى الأسبوع الماضى، أن أذكر بالتفصيل ما ألمحت إليه عن تصريح الرئيس ميتران رئيس فرنسا حين علم بقرب نهايته، وتعليق شيخى محفوظ عليه، فرحتُ أبحث عن ذلك فى ماسجلته فى كتاب «فى شرف صحبة نجيب محفوظ»، الذى لم ينشر ورقيًّا بعد، وإذا بى أجد معه ما يعلمنا بعض «أصول» ما نسميه آداب الخلاف، وأصول الاختلاف، ففضّلتُ أن أقتطف ما يجيب الصديق إلى طلبه جنبا إلى جنبمع ما جاء فى هذا اليوم من هدْى شيخنا الجليل، وهاكم بعض ذلك:

الثلاثاء‏ 27/12/1994

… أدق جرس الباب السادسة إلا دقيقتين، أو دقيقة، ونكون فى العربة فى السادسة ودقيقة، أصبحت الدقائق عندى أكثر امتلاءً، وأحكم تتابعا، استأذنته‏ أن‏ أوصله‏ إلى العوامة «فرح بوت»، ثم‏ أذهب‏ إلى ندوة‏ تعقدها لجنةالثقافة العلمية فى المجلس الأعلى للثقافة عن الثقافة‏ العلمية‏ والإعلام، فقال‏: «‏لا‏ تتأخر،‏ سننتظرك،‏ لا بد‏ أن‏ تحضر‏ قبل‏ الأكل»، هو لا يأكل ‏فى هذا‏ المساء إلا قطعة‏ جبن،‏ أ‏و «طعمياية»،‏ وفنجان‏ من‏ الينسون‏ (‏أو‏ اثنين‏)، كان‏يدعونى أن أحضر لأشارك‏ الباقين‏ فى تلك‏ الوليمة‏ الثلاثائية‏ (‏الوقْفية‏!: من صاحب العوامة) فطمأنته‏ ونبهت عليه أنه‏‏: «لك‏ سيجارة‏ واحدة‏ وأنا‏ غائب، والثانية‏ حين‏ أعود، فهذا‏ أدعى لتأكيد‏ عودتى وتعميق‏ انتظارك لى»، فهمَ، و‏ضحكَ، ومال إلى الخلف، وسررتُ أنا جدا‏.

……..

‏رجعتُ‏ بعد الندوة ووجدتُ‏ الأستاذ‏ مبتهجا، حمدت‏ الله، إلا‏ أننى سمعت‏ بقايا‏ حديث‏ عن‏ شخصين‏ كانا‏ قد‏ حضرا‏ فى البداية، وأن‏ أحدهما‏ مصرى يقيم‏ فى لندن‏ منذ‏ ثلاثين‏ عامًا‏ أو‏ أكثر، وأنه‏ أثار‏ نقاشًا‏ جرح‏ فيه‏ مصر‏والمصريين، و‏أنه‏ تكلم‏ من‏ «‏فوق‏» جدا، فنال‏ من‏ الرد‏ والرفض من الحضور‏ ما‏ اضطره‏ هو‏ وصديقه‏ الذى اصطحبه‏ (‏ابن‏ طبيب‏ مشهور، كان أستاذى) إلى الانسحاب، وجعل الأستاذ‏ يتلفت بين الحين والحين ويتساءل‏: أين‏ ذهبا؟لاحظت إلحاحه وهو يكرر‏ السؤال، والجلوس‏ فرحين‏ بذهابهما، وهم يذكرون‏ هذا‏ المهاجر‏ بكل‏ سوء، ويصر الأستاذ أن يسأل عن الضيفين، فرجّحت أنه يطمئن على أن ما نالهما من رفض ونقد لم يجرحهما، وحين‏ عرف‏ أنهما‏انصرفا‏ غاضبين، بعد أن وصلهما رفض عام تقريبًا،‏ اكتسى وجهه‏ بألم‏ أبوى رقيق، وقال‏ «‏كان‏ لا بد‏ من‏ الصبر‏ على النقاش‏ مهما‏ اشتط، لماذا‏ لا‏ نحتمل‏ الاختلاف!؟»‏ لم‏ يعقب‏ أغلب‏ الحضور‏ فى الاتجاه‏ الذى أشار‏ إليه‏ الأستاذ،وقال بعضهم بصوت لا يصله، إن هذا ليس اختلافًا بل‏ «وقاحة». أن تنتقد بعض ما لا تحبه فى بلدك أو لبلدك شىء، وأن تسب بلدك وأنت لم تعد تقيم فيه وتتحمل مسؤوليته شىء آخر، جاء تليفون واستُدعى الصديق الداعى لهذينالشخصين للرد، وبعد أن ذهب وعاد، أبلغ الحضور والأستاذ أوّلنا، أن صديقه المسؤول عن هذا الغضب المتبادل، يبلّغ الجميع والأستاذ خاصة أسفه لما حدث، واعتذاره لاصطحابه‏ لهذا‏ المهاجر‏ المنسلخ‏ عن‏ جلده‏،‏ الناسىأصله‏… إلخ، فرح الحضور ورحبوا بالاعتذار، لكن الأستاذ‏ رفع‏ حاجبيه‏ دهشة‏ لفرحة‏ الحضور، وعلق بأن هذا اعتذار‏ ليس‏ فى محله، وأن الخطأ متبادل، وفى أثناء‏ العودة‏ معى فى سيارتى ألمحت‏ إليه‏ أننى راض‏ٍ عن‏ حدة‏ النبرة‏هذا‏ الثلاثاء، وعن حرارة الاختلاف، وعن‏ إيقاع‏ الحديث‏ هذه الليلة،‏ بالمقارنة‏ بالثلاثاء‏ الماضى، لكنه‏ قال‏: «‏إن‏ الحديث‏ لم‏ يكن‏ كذلك‏ قبل‏ أن‏ تحضر، ومع‏ ذلك‏ لم‏ تضجرنى حدته‏ بقدر‏ ما‏ آلمنى انصراف‏ الضيفين‏ مغضبين»، ثم‏أردف‏: «‏لماذا‏ لا‏ نطيق‏ الاختلاف‏ هكذا؟‏ إن السماح‏ ينقصنا، علينا أن نكون جادين فعلا فى تحمل‏ الاختلاف، إن الاختلاف الحقيقى هو الذى يجعلنا نعيد النظر، وبالتالى يتسع الوعى، وتعمق البصيرة».

تطرق‏ الحديث‏ إلى الحريات، ومساحة‏ حركة‏ الفكر‏ فى أوروبا‏ مثلا، فذكرت‏ ما‏ قرأت‏ مؤخرا‏ من‏ حديث‏ أدلى به‏ فرانسوا ميتران‏ للتليفزيون الفرنسى بعد‏ أن‏ ثارت‏ مسألة‏ مرضه‏ بالسرطان، مع‏ اقتراب‏ نهايته‏ الحتمية، وأبديت‏ملاحظة‏ حول‏ إعجابى بشجاعته‏ لإعلانه‏ ذلك‏ مع‏ إعلان‏ تمسكه‏ أن لا‏ يترك‏ منصبه‏ إلا‏ بعد‏ انتهاء‏ مدة‏ رئاسته‏ فى مايو‏ التالى. سأل‏ المتحدث‏ ميتران: هل‏ تؤمن‏ بالله؟ فأجاب‏: هذه‏ مسألة‏ فيها‏ آراء‏ كثيرة‏ مختلفة، فمضى المتحدث‏ يسألبجرأة‏ أكبر‏: ماذا‏ لو‏ واجهتَ‏ الله‏ بعد‏ الموت (فى الآخرة‏). فأجاب ميتران‏ بنفس‏ الصدق‏ الجرىء‏: سوف‏ تكون‏ مفاجأة، وسأقول‏ له‏ إن‏ مسألة‏ الخلود‏ هذه‏ مسألة‏ مملة‏ جدًا‏‏، ولم أذكر للحاضرين ما دار بذهنى ساخرًا: من أنه يبدو أنميتران، الذى أحترمه، وأحترم شجاعته خاصة، لم يصله أن ثَّم خلودًا فى الجنة، وآخر فى النار!

علق‏ كثير من الحضور‏ على هذه‏ الرواية، ووافقونى على وصف هذا الموقف بالشجاعة، وأنه دليل على حرية الرأى عندهم إلى هذه الدرجة، فهذا‏ رئيس‏ جمهورية‏ يعلن‏ بصراحة‏ موقفه‏ على الملأ‏ فى التليفزيون،‏ فلا‏ الدين‏اهتز،‏ ولا‏ أحد أفتى بتكفيره، أو أوصى بإعدامه‏، حسبتُ‏ أن‏ الأستاذ‏ سوف‏ ينبهر‏ بهذه الرواية وهذه الحرية مثل‏ الآخرين، إلا‏ أنه‏ ظل‏ مطرقًا‏ بعض‏ الوقت، ثم‏ رفع رأسه‏ قائلا‏: لا‏ أظن‏ أنه‏ محق‏ تماما، قد‏ يكون‏ عند‏ه حق‏ فى الجزء‏الأول‏ من‏ الإجابة‏ فوجود‏ الله‏ مسألة‏ فيها‏ آراء،‏ عندهم‏ بلا‏ أدنى شك، أما‏ الجزء‏ الثانى فإجابته‏ تدل‏ على أنه‏ رجل‏ يفتقر‏ إلى الخيال، وكنت‏ قد‏ تصورت‏ أن‏ الأستاذ‏ سوف‏ ينبهر‏ من‏ مسألة‏ وصف‏ الخلود‏ بالملل، خصوصًا‏ بعد‏ أن‏ عرّىضلال‏ الخلود‏ فى الدنيا فى ملحمة «الحرافيش»،‏ وكان‏ هذا‏ هو‏ محور‏ نقدى لهذا‏ العمل‏ بالإضافة‏ إلى فكرة‏ دورات‏ الحياة‏، أكمل‏ الأستاذ‏ وهو يخاطبنى: إن‏ مسألة‏ رفض‏ الخلود‏ مع‏ الله‏ باعتباره‏ مملا‏ غير‏ مقبولة‏، وتدل‏ على افتقار‏ميتران‏ للخيال، لأنه‏ إذا‏ كان‏ بقائى مع‏ واحد‏ أحبه، مثلك مثلا، يزيد‏نى بهجة‏ ويملؤنى فرحة، أليس المنطقى هو أننى كلما بقيت معك‏ أكثر‏ فرحتُ‏ أكثر‏، فما‏ بالك‏ ببقاء‏ دائم‏ مع‏ الله‏ سبحانه إلى غير‏ مدى، أليس هذا أدعى لفرحةمتجددة، فمن أين يأتى الملل؟

هذا‏ هو‏ نجيب محفوظ، يشجب‏ خلود‏ الدنيا، ويفرح‏ بالاستمرار‏ بغير‏ حدود‏ فى رحاب‏ الله الحبيب‏، ويرجو‏ من‏ الناس‏ أن‏ يفسحوا‏ فى خيالهم‏ حتى يتصوروا‏ ما‏ يوعدون‏ به‏ أعمق‏ وأصدق‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *