الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / تعتعة التحرير ومازال نجيب محفوظ يعلمنا: سبحان الله الوهاب

تعتعة التحرير ومازال نجيب محفوظ يعلمنا: سبحان الله الوهاب

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء :  26-9-2012

السنة السادسة

 العدد:  1853

 

جريدة التحرير

ومازال نجيب محفوظ يعلمنا: سبحان الله الوهاب

اكتشفت ما أعيد اكتشافه كل يوم: من أننا اليوم أحوج ما نكون إلى حكمته، وكما ذكرت فى الأسبوع قبل الماضى وغيره أننى حاليا أواصل استلهام التدريبات التى خطها بيده وهو يعاود محاولة العودة إلى الكتابة، ثم إنى أعود إلى ما كتبت وما استلهمت معا بين الحين والحين، فأجده مازال بيننا، ومازلنا فى أمس الحاجة إليه بالذات فى هذه الأيام، نعم: نحن أحوج ما نكون إلى حضوره من خلال أى أثر تركه لنا، أو فينا.

اليوم نقرأ نص ما كتب فى الصفحة السادسة من التدريب بتاريخ (30/1/1995) كما نقرأ نص التداعيات والاستلهام الذى علقت بهما على ما كتب فى نشرة “الإنسان والتطور فى موقعى” بتاريخ (14/1/2010)، ونتعلم منه وهو يتحرك بنا بما ظهر من فيض وعيه كيف يوصينا برفض التسليم لموت التبلد قبل الموت المهاب، مع إشارة طيبة لإيجابية التلقى من كل مصادر المعلومات، ليزين هذا كله بالتسبيح للملك الوهاب، واهب الحياة وواهب العفو وواهب الرضا وواهب المغفره

(ملحوظة: لاحظ كيف كانت هذه اللقطة هى فى بدايات التدريب، فهى الصفحة السادسة بتاريخ 3-1-1995)

المتن:

صفحة التدريب (6) الكراسة الأولى

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

نجيب محفوظ

ولكن لا حياة لمن تنادى

سبحان الله الوهاب

يأتيك بالأخبار من لـ(م) تزود

 نجيب محفوظ

3-1- 1995

القراءة

………

………

بدأ هذه المرة بكتابة اسمه ثلاث مرات ثم ألحقه بأنه لا حياة لمن تنادى.

نجيب محفوظ هو المتفائل الدائم، تفاؤلا بمسئولية رائعة، كنت كلما حدثته عن احتمال أن ثورة التوصيل والتواصل، خاصة بين الشباب، يمكن أن تنقل الإنسان المعاصرإلى ما ينقذه فى مواجهة السلطات العولمية المستهلكة والمغتربة، فرح فرحة من وجد وسيلة لتحقيق آماله فى الشباب والعلم والغد. حين يكتب اليوم بعد ترديد اسمه ثلاث مرات، أنه “لا حياة لمن تنادى”، لا يكتبها بمعنى التقرير، بقدر ما يكتبها بمعنى الحث أن نحيا، وأنه هناك “نجيب محفوظ” ينادينا بإبداعه: إلى مواصلة الحياة الحقيقية.

المنهج الذى اتبعته حتى الآن (لم نتعد بعد الصفحة السادسة) هو أن أعتبر العينة التى قفزت إلى وعيه أثناء التدريب، فكتبها، ليست هى بالضرورة كل ما يحتاج إلى تعليق او قراءة تأويلية، بل إننى آخذها مفتاحا لما وراءها، فأبحث عن أصل النص، أو بقيته، وأعتبر أن النص قد حضر كله، أو على الأقل أكثر مما دوّن بكثير، يحضر النص  فى عمق ما من مستويات وعيه، لكنه لا يدون منه إلا بضع الكلمات التى سطرها، والتى أعتبرها مجرد قمة جبل المعرفة الذى حل بقلمه وقتها، البيتان الذان يوحيان باليأس لأول وهلة، يكتبهما شيخى وهو لا يعرف اليأس، هما لعمر بن أبى ربيعة

وقد أسمعتُ إذ ناديت حيا  ولكن لا حياة لمن تنادى

ولو نارا نفختَ بها أضاءت ولكن أنت تنفخ فى رماد

لو أن محفوظ تصور ثانية واحدة أنه ينفخ فى رماد، أو أنه ينادى موتى، لما استمر يخط كل ما خط حتى آخر لحظة فى حياته، لقد ظل ينحت فى صخر وعينا طول الوقت، طول العمر، وهو يتناول قضايا الوجود بعد أن تغطت بالخوف والتأويل السطحى والتفسير الوصى، كما يتناول قضايا الواقع من ناحية أخرى، كل ذلك من جوف جوف وعيه الخلاق، فثم حياة لمن ينادى، وثم نورا يضيء من نفخه فى نار إبداعه، وفى رأيى أنه ما جاء ذكر هذا الشطر من هذين البيتين فى تدريبه، إلا ليقول لنا: إياكم أن تكونوا مثل ذلك، فأنتم لستم كذلك، لأننى أواصل النداء، وأواصل النفخ فى النار لتضىء لكم، لى، لنا ، الطريق ، إليه، إلينا!!

يلحق هذا المقتطف مباشرة أنه “سبحان الله الوهاب”،

فإن لم تكن ثمة حياة فى من تنادى، فالوهاب – سبحانه- هو واهب الحياة وباعث الموتى

أليس كذلك؟

ثم ينهى تدريبه هذا اليوم بأنه “…يأتيك بالأخبار من لم تزود”

يمكن أن نختصر التعليق على هذه الجملة الأخيرة فى أنه بعد الحادث، وربما كان كذلك قبله، كان محفوظ فى حالة تلقِّ دائم، ومتابعة دقيقة يومية لكل ما يجرى، كان الحاج صبرى يأتيه كل صباح، يقرأ له الأهرام بانتظام، وكان يوسف القعيد هو راوى الأخبار الشفاهية التى لا تكتبها الصحف، لأسباب مختلفة طبعا، وبمصداقية يوسف أدرى بها، كان الأستاذ يستمع إلى هذا وذاك، وإلينا جميعا ويعقب بطريقته على ما شاء منها، أولا بأول، فيرد بما يريد، يصمت فيصلنا بعض ما يريد.

وبحسب المنهج الذى أشرت إليه حالا، رجعت إلى أصل البيت، فى القصيدة التى أفترض أنها حضرت فى وعيه بشكل ما، فقفز منها شطر هذا البيت الذى جاء فى معلقة طرفة بن العبد، وهو بيت فى سياق شديد الجمال والدلالة فى موقفنا هذا، كما يلى:

ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً 

ويأتيك بالأخبار من لم تزود

ويأتيك بالأخبار من لم تبع له

بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد

ثم:

لعمرك ما الأيام إلا معارةٌ

فما اسطعت من معروفها فتزودِ

…..

لعمرك ما أدرى و إنى لواجل

أفى اليوم إقدام المنية أم غد؟

طبعا لا أدرى أى من هذه الأبيات كان فى خلفية وعى الأستاذ من معلقة طرفة بن العبد، لكننى انتقيت ما خطر لى، وأود ان أنبه كيف أن الأستاذ لم يكن أبدا واجلا متى يأتيه الموت، وما زال يتردد فى أسماعنا حديثه المذاع مرئيا، والمسجل منذ سنوات من أنه يحب الحياة، ويحب الناس، ويحب الموت، وما جاء فى هذه النشرة (الإنسان والتطور) سابقا من ذكره كيف أنه يحب البقاء هناك قريبا من الله، وكلما امتد ذلك زمنا فزمن، كان أفضل، وكان ذلك  تعقيبا منه على الحديث الذى حكيت له فيه عن الرئيس ميتران وهو ينتظر النهاية بعد أن أصيب بالسرطان، وكيف أنه قال إن الأمر سوف يكون مملا لو اكتشف أن هناك آخرة حتى فى الجنة، فى مقابل ذلك نلمح هنا عند شيخنا صدقا إنسانيا، وواقعا حيا يعلن أن انتظاره لما تأتى به الأيام، وما تفاجئه به الأحداث، هو مثل انتظار أى بشر طيب رهيف هادىء وجل، محب للحياة والموت معا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *