الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الإدراك (68) عن العلم والثقافة والمعرفة(1)

الإدراك (68) عن العلم والثقافة والمعرفة(1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 4-9-2012

السنة السادسة

العدد:  1831

 الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (107)

 الإدراك (68)

عن العلم والثقافة والمعرفة(1)

4-9-201

بمجرد أن ظهرت نشرة الأربعاء الماضى عن “الإدراك والعلم المعرفى” حتى وجهت مشافهة من قبل زملائى الأقرب والأصغر باستفسارات لحوح منها:

الأول: لماذا طرحت الأسئلة الثلاثة عشر مادمت وقد صدرتها بسماح: أنه غير مطلوب الإجابة عليها، وكأنه سماح يغرى بعدم التفكير فيها أصلاً وليس فقط العزوف عن الاجابة عليها.

الثانى: إذا كان المطلوب – (أو المسموح به) هو عدم الإجابة، فهل سأقوم أنا (الكاتب) بالإجابة عليها أو حتى على بعضها الواحد تلو الآخر فى الحلقات التالية؟ أم ماذا؟

الثالث: إذا كانت علاقة “علم الإدراك” كما طرح بكل هذا الاتساع بما يسمى “العلم المعرفى” علاقة شديدة التماسك والتداخل هكذا، فالقارىء أحوج ما يكون إلى التعرف أولا على “العلم المعرفى”، ربما يكون مدخلاًً أسهل للعودة للتعرف على الإدراك فى مجالاته الأوسع المشار إليها.

أكتفى بهذه التساؤلات الثلاثة، وأعتذر بدورى عن الإجابة عن السؤالين الأول والثانى مؤقتا، لأستجيب للسؤال الثالث ولو بطريقة جزئية وفضفاضة نوعا.

عثرت بين أوراقى على محاضرة كاملة ألقيتها فى المجلس الأعلى للثقافة عن الثقافة العلمية والعلم المعرفى بتاريخ 4 فبراير 2003 .

وكانت بمثابة مواجهة صريحة مع أغلب إن لم يكن كل، الزملاء المنتمين أساسا إلى العلم المؤسسى، وتصورت أن فى عرضها الآن هنا ما يفيد الرد على التساؤل الثالث بقدر مناسب.

المحاضرة:

 “العلم المعرفى والثقافة العلمية”

4فبراير 2003، المجلس الأعلى للثقافة.

يحمل هذا العنوان ثلاث كلمات  لا نكف عن استعمالها، فى مجال الثقافة . كان لابد أن أنبه من البداية أن علينا أن نبين المقصود منها حتى لا يصلنا من العنوان غير ما يريد. الكلمات الثلاث هى “العلم” – “الثقافة” – “المعرفة“، فإذا أضفنا إليها كلمتا “التفكير” و”العقل” وجب الانتباه إلى مخاطر الغموض واللبس اللذان قد يترتبان على تلقى أى من هذه الكلمات بغير ما يقصد المحاضر، ولغير ما يقصده.

وبرغم كل ذلك فليس فى نيتى، ولا فى مقدورى، أن أتقدم بتعريف جامع مانع لأى منها. إن مجرد التصدى للتعريف فى البداية قد يكون  إشكالا فى ذاته، لا ينتهى. إن كثيرا من المعاجم تتجنب التعريف وتستبدله بإيراد الكلمة فى سياق يسمح بفهم ما تعنى . يبدو أن هذا هو ما أرجوه من المتلقى : أن يجعل وعيه مفتوحا لاحتمالات أخرى حين يسمع هذه الكلمات الخمس بالذات فلا يسارع بإدراكها كما اعتاد فى سياق آخر.

هذا، وقد أعدت تنظيم الورقة مؤخرا بحيث نقلت القدر الأكبر المتعلق بتعريف العلم، والثقافة، بل والثقافة العلمية إلى ملحق مستقل، حتى يكون التركيز على واقع وأساسيات العلم المعرفى.

ملامح إشكالات مُلاحِقة:

أولا: إذا كان لا يمكن فصل فلسفة العلم عن تاريخه، فإن ما آلت إليه فلسفة العلم حالا يعلن التوجه إلى تكامل وتضفر مختلف العلوم بحيث لا يمكن الحديث عن الثقافة العلمية لعلوم دون الأخرى.

ثانيا: إن تذبذب مضمون كلمة علم عند العامة “بين الاختزال والخلط والترهل”(أنظر الملحق)، جعل كثيرا من الهواة يستعمل لفظ العلم فى غير موضعه، وخاصة عند محاولى ربطه بمنظومات أخرى لا تتكلم بأبجديته، مثل الدين أو السياسة.

ثالثا: إن إشكالة توظيف العلم لخدمة الحياة ما زالت تلقى تحديا يقول: إن تاريخ الحياة هو تاريخ التأقلم مع المحيط، فالتطور، سواء تم ذلك بتخطيط علمى أم بقوانين التطور بدون وعى.

رابعا: إن اتساع مفهوم العلم (والتفكير) قد فتح ملف عمل المخ، وبالذات ملف الفروق النوعية بين عمل نصفى المخ الكرويين .

خامسا: إن التقارب المتزايد بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية الأحدث جعل إلصاق صفة العلم إلى الثقافة يلزمنا بالانتماء لكليهما دون تفرقة.

بعض ما آل إليه سوء استخدام مفهوم “العلم”

ثمة استعمالات لمفهوم (ولفظ) العلم تختزله أو تشوهه، ومن ذلك:

1)  إن العلم منظومة قَيَمِية اكتسبت زخم الأيديولوجيا إلى درجة التقديس وما يستتبعه من تعصب دينى منغلق (العلم المؤسسى = دين كنسى محاصر).

2)  إن العلم هو فقط ما يثبت بالتجربة القابلة للإعادة التى تعطى نفس النتائج .

3)  إن العلم هو ما يقبله منهجى “العلمىّ” فقط ( يسرى ذلك على المحاضِر والحضُور جميعا).

4)  إن العلم هو ماتسبقنا فيه إسرائيل وأمركيا ومن إليهما.

5) إن العلم قادر على كل شئ فلا حاجة بنا إلى غيره.

أكتفى بهذا القدر الذى لو انزلقت إليه الثقافة العلمية لأصبح ضررها أكثر من نفعها

موقع المحاضر ومنطلقه:

يقدم المحاضر اجتهاداته وفروضه من موقع مستهلك  الثقافة العلمية أكثر منه مشاركا فى إنتاجها من حيث أنه أساسا يمارس حرفة فنية (لهذا يفضل لقب “الصنايعى” الذى يمارس حرفة المداواة والمواساة أساسا). وهو بذلك يحقق الغرض الذى يدافع عنه: أن يكون اتجاه الثقافة من الممارسة إلى التنظير ثم العكس إن لزم الأمر.

علاقة العلم بالمعرفة       

المعرفة أشمل من العلم وهى أشمل من التفكير بصفة عامة. ثم إن المعرفة ليست قاصرة على عمل المخ (الدماغ). وهى تتجاوز بوجه خاص عمل النصف الطاغى من المخ لتشمل النصف المتنحى، ثم بقية مستويات الدماغ، فالجسد. كذلك لا يجوز قصرالتفكير عما شاع عنه من أنه “حل للمشاكل”. حتى فى المعاجم نلاقى هذا الخلط بين التفكير والمعرفة والعلم

بدأت المعرفة من ”التمييز“Categorization قبل ظهور الجهاز العصبى والدماغ.  الأميبا تميِّز بين ماهو صالح للغذاء عن ما هو غير ذلك Food <= => No-food categorization إن تاريخ  الإنسان ليس تاريخ التفكير، هو تاريخ النجاح فى التلاؤم مع البيئة  لصالح التطور (على اختلاف تفسير وتفصيل ذلك!. من هنا يلزم التنبيه على ضرورة الوعى بحتمية توظيف العلم لخدمة المعرفة التى هى الأصل ، خاصة من منطلق التطورالحيوى .

بُعد الزمن والمعرفة

 ثَـمّ بعد آخر لا بد من أخذه فى الاعتبار ونحن نتعامل مع العلم والمعلومات حتى تصبح معرفة ووعيا يسهم فى تشكيل ما نسميه الثقافة، وهو بعد الزمن. إننا لا نضع هذا البعد كمتغير جوهرى فى تشكيل وعينا بما يصل إلينا من معلومات (علمية وغير علمية). نحن (أنا) مثلا : قد نغفل  قراءة المعلومة فى سياقها الزمنى، ولا نتقن قراءة المعلومة مضروبة فى حجم زمنها، ولا نُعمل خيالنا لاستيعاب وحدات الزمن العملاقة (البليون سنة مثلا) ولا وحدات الزمن المتناهية الصغر (الميكروثانية، ثم الفانتو ثانية) وباالتالى تظل المعلومة كيانا غريبا منغرسا فى الوعى لا ممتزجا به فنسيجا منه. إن كل ذلك يجعلنا أبعد عما هو ثقافة علمية، وأعجز عن التخطيط طويل المدى لما هو مستقبل.

 نحن بالتالى نخطط للمستقبل القريب دون البعيد على أحسن الفروض. إن من يقرأ العلم، أو يمارسه وهو لا يحاول أن يتخيل رحلة ما بين الفانتوثانية (زويل) والـ“جا ق ز ح“ (جيجا سابقة= ألف مليون سنة قبل الزمن الحالى. د.مصطفى فهمى) لا يكون قد وصل علمه إلى أعماق طبقات وعيه بما تأمله الثقافة العلمية. 

فى تجربة مباشرة الآن، دعونا نستحضر كل خيالنا ونحن نقرأ بعض المعلومات الأساسية الموصوفة بمقياس زمنى:

أرقام من التاريخ (صدمة من الفكر التطورى)

 عمر الكون 9- 20 بليون سنة

 عمر الأرض 4-6 بليون  سنة (أقدم تسجيل لصخورها 4 بليون سنة)

عمر الحياة على الأرض  1-2 بليون سنة

 عمر الإنسان 600 ألف سنة !!!

 جذور السلوك التدينى أمكن إرجاعها إلى 300 ألف سنة

 علامات وإرهاصات نشأة اللغة 100 ألف  سنة

 الأديان  السماوية + 4000 سنة

ما يسمّى العلوم الحديثة 200 سنة (العلوم الحديثة جدا  50 سنة)

كيف تغير هذه الأرقام ثقافة من تصل إليه :

 هذه الأرقام تقريبية وهى بعض نتاج علوم كثيرة (من الجيولوجيا والباليونتولوجيا -أشكال الحياة فى العصور الجيولوجية السابقة- إلى التاريخ ، مروراً بالبيولوجيا ..إلخ) . أتصور أن خيالنا قاصر عن التعامل معها بما يسمح بامتزاجها بالوعى فنسيج الثقافة الفردية فالعامة. إن مهمة الثقافة العلمية هى أن تسهم فى تسهيل هذه النقلة من المعلومة مضروبة فى زمنها إلى تشكيل ما هو ثقافة علمية ؟ وبعض تطبيق هذا التصور – مثلا – هو أن تثور تساؤلات تقول:

  • هل يصح  أن تصبح الـ 200 سنة الأخيرة وصية على المستقبل دون كل ما سبق إنجازه تحت زعم أن ”العلم الحديث– دون غيره – هوالحل“ ؟
  • وهل يصح أن تكون الأربع آلاف سنة الأخيرة وصية على السابق واللاحق تحت زعم“العودة للدين هى الحل“؟
  • وهل يصح أن نقصر تعبير ”المنهج العلمى“ على بعض ما جاء فى  هذه الـ 200 سنة؟ (أو الـ 50 سنة؟)

أين تقع ”الثقافة العلمية“ من كل هذه الحقائق؟

شروط أن تنقلب المعلومة إلى ثقافة:

يمكن من خلال هذه التقدمة أن نعيد النظر فى ما شاع عن الثقافة العلمية حتى تتميز عن مجرد زيادة المعلومات، أو ممارسة البحث العلمى . ربما يتضح ذلك أكثر إذا حددنا بعض الأخطاء الناتجة عن مثل هذا الخلط، ومنها أن فرط المعلومات العلمية لا يكوّن ثقافة علمية، ذلك لأن فاعلية المعلومة وفرص دخولها فى نسيج الثقافة لا يتوقف على مجرد تحصيلها وإعادتها، أو تسميعها أو حتى نشرها، ،وإنما هو يرتبط بـ

 (1) مدى الحاجة إليها

(2)  توقيت ظهورها

(3) تناسب ذلك مع الحاجة إليها

(4) سياق استعمالها

ثم : (5) إمكانية تطبيقها (نفعا أو اختبارا)

أضف إلى ذلك : (6) احتمالية تغييرها

 و أخيرا:  (7) مدى تكاملها مع غيرها من منظومات المعرفة.

الاتجاه الصحيح للثقافة العلمية:

إن ما هو ثقافة علمية يمكن أن يتميز- بشكل غير استبعادى – عما هو علم بأنه ينبع من الناس ليصب فيهم ويرجع إليهم. بمعنى أن على المهتم بتغيير وعى الناس أن يبدأ من حيث الناس لا من حيث المعلومات أو نتائج الأبحاث.

 إن النظر فى الفقرة السابقة يستتبعه البدء بالنظر فى ممارسات الناس الجارية، للتعرف على معناها، وتفسير انتشارها، ومدى ضررها أو نفعها. حتى لو كان هذا الذى يُمارس مما يسمى خرافة، فهو الواقع البدء. من هذا المنطلق (من الممارسة الفعلية) يمكن البحث عن المعادل الموضوعى من المعارف الأبقى والأسلم التى تحقق هذه الحاجات الملحة التى ألجأت الناس إلى ما تسارع بتسميته الخرافة (هذا ما أسميته فى مبحث سابق “علمنة الخرافة”، انظر الهامش)

 إن التأكيد على البداية من الناس لا يعنى الاستسلام لما هم عليه، وإنما هو يعنى استيعاب مرحلة وعيهم، وحقيقة احيتاجهم، بهدف تحقيق ما هو مناسب لهذه المرحلة من بين ما حققه كل من التفكير العلمى، والإبداع العلمى ، فى سياق الممارسَة القابلة للتطوير بناء على الأحدث فالأحدث من المناهج والمعطيات العلمية. 

التكامل المعرفى والثقافة العلمية

 نتذكر ونتذاكر مرة أخرى أن  المعرفة أشمل من العلم والمعلومات، وأن المعرفة ليست فقط بالتفكير (كما نرسم حدوده)  أو بما يسمّى العقل (كما نتصوه أونختزله)، وأن للمعرفة أكثر من مصدر.

ثم نتذكر أيضا أن لكل مصدر من مصادر المعرفة أبجديته (ولغته)  الخاصة التى لا يصح استعمالها لغير ما وضعت له مع أنها جميعا – فى الأحوال السليمة – تتضفر وتتكامل وتتجادل مع بعضها البعض. من هذا وذاك تنفتح الأبواب لمناهل متعددة للمعرفة لتتكامل معا. لا يعنى فتح باب المعرفة لروافد  أخرى، أننا نريد، أو نفضل، أن  تحل أى منها محل المعرفة العلمية . فى الكتاب الذى أصدرته لجنتنا العام الماضى بعنوان  “أضواء على الثقافة العلمية” وأشرف على تحريره الأخ الزميل أ.د. عصام الحناوى، شاركتُ بفصلٍ بعنوان “الثقافة العلمية والتكامل المعرفى (ص 29 – 52) وكان الهدف منه هو توسيع مناهل المعرفة قبل، وبعد، ومع العلم لا بغرض التنافس والتفضيل، وإنما للتأكيد على ضرورة التكامل والتضفر والجدل بين كل مناهل المعرفة بعضها مع بعض. أكتفى بعرض الشكلين لتوضيح تعدد هذه المناهل.

……….

……….

وغدًا نكمل ما تيسر من المحاضرة.

(انظر الشكلين من فضلك).

4-9-201

4-9-2012-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *