الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الصحة النفسية (9) الوعى (كلية البرنامج الحيوى البقائى)

الصحة النفسية (9) الوعى (كلية البرنامج الحيوى البقائى)

نشرة “الإنسان والتطور”

 1-12-2010

السنة الرابعة

العدد: 11881-12-2010-A

الفصل الأول

الصحة النفسية (9)

الوعى (كلية البرنامج الحيوى البقائى)

ما بين “فرط العادية” و”شطح الجنون”

مرورا بالإيقاع الحيوى بين حالات الوجود

تمهيد

انتهينا أمس إلى إضافة مصطلحين هامين الأول يمنع الخلط بين الجنون السلبى وبين حالة الجنون إيقاعا، والثانى يؤكد أن إيقاف فاعلية الإيقاع الحيوى بالمغالاة فى الدفاعات يؤدى إلى اغتراب يصل إلى درجة المرض الذى سمى باسم “فرط العادية” ومن ثَمَّ إلى العصاب وأضطراب الشخصية.

وكنت أنوى أن أبدأ فى تصحيح جدول المقارنة الذى جاء فى الأطروحة باكراً 1986 بعد إضافة هذين المصطلحين المستحدثين، إلا أننى فوجئت أن الجداول كلها، وأيضا الشرح الذى تحتها تحتاج إلى تعديلات جذرية نتيجة هذه الإضافة.

وقد بدأت بإعادة تخطيط الرسم الرمزى الذى نشر أمس، لأقصر الإيقاع الحيوى على التناسق الطبيعى والذى يشمل “حالة الجنون” دون “الجنون”، وأيضا لأستبعد “فرط العادية” بعيدا عن الإيقاعية الصحية بشكل أو بأخر.

1-12-2010-B

ثم إنى فوجئت بأن أول بند فى المقارنة فى الأطروحة الأولى كان المقارنه بين حالة “الوعى“، فى كلٍّ، مع العلم أن ظاهرة الوعى: (طبيعته وتاريخه وتعدد مستوياته، وحضوره وغيابه…الخ) مازالت تمثل تحديا علميا لم يتم حله بعد.

هذا التحدى شغل علماء فسيولوجيا الأعصاب، وعلم الأمراض العصبية وعلم المعرفة العصبى، والفلاسفة، ومختصى العلوم النفسية جميعا وبالذات التحليل النفسى، وللأسف شغل أطباء النفس بدرجة أقل مما ينبغى، وقد وجدت أن أقرب تمهيد لعرض هذه المقارنات هو التعرف على ما نعنى بهذا المصطلح “الوعى” أولا.

هذا الموضوع هو شغلى الشاغل كما كان ومازال شغل “دانيال دينيت” فى أكثر من عمل وخاصة فى كتابه الصغير “أنواع العقول“، Kinds of Minds (وهو الكتاب الذى أشرنا إليه نشرة سابقة 25-12-2007 “أنواع العقول وتعدد مستويات الوعى”)، (نشرة 2-1-2008 “أنواع العقول (وإلغاء عقول الآخرين).

الكتاب له عنوان فرعى كالتالى:

 Towards an understanding of consciousness(1)

ان محاولة فهم الوعى، كما فعل دينيت، هى المدخل الضرورى الذى يمكن أن يساعدنا على فهم دورات الايقاع الحيوى بين حالات الوجود بدءًا بالتمييز بين حركية وتعدد حضور مستويات الوعى فى كل حالة منها.

وقد استعمل دينيت قاصداً كلمة “عقل” فى حين أننى قرأت الكتاب كله باعتبار أنه يتحدث عن “البرنامج البقائى الحيوى الذكى الهادف الذى حافظ على بقاء الأنواع” عبر تاريخ تطور الحياة حتى الانسان،

وهو ما يقابل “مستوى الوعى البقائى” عندى ولكن بدءًا من هنا: سوف استعير كثيرا استعمال دينيت لكلمة عقل بهذا المعنى.

الافتراضات الأساسية:

أولا: أن لنا- نحن البشر- أكثر من عقل فى آن.

ثانيا: (مرة أخرى) أن كلمه عقل (فى هذا الصدد) تكاد تكون مرادفة لكلمه وعى

ثالثا: إذن فنحن لنا أكثر من وعى

رابعا: أن هذه العقول، (ومستويات الوعى) تعمل معا، بالتبادل الإيقاعى، وبالجدل المتناوب طول الوقت.

خامسا: إن الصحة النفسية هى: كفاءة هذا الإيقاع الحيوى لتنظيم حركية هذه العقول (مستويات الوعى) للحفاظ على البقاء، وللتكيف مع المحيط، ومواصلة التطور.

سادسا: إن المرض النفسى ينشأ حين تضطرب هذه العملية إما بالإنكار والاغتراب (فرط العادية) وإما بالتجاوز والشطح (الجنون).

العقل والوعى

العقول التى تكلم عنها الكتاب، ترجع إلى ما قبل الإنسان بردح طويل، قبل ظهور ما يسمى المخ، ومن هنا سمحت لنفسى أن أرادف بين ما هو “وعى” وما هو “عقل”.(2)

ما الذى يميز الوعى البشرى؟

نبدأ – كما فعل دينيت – بالدعوة إلى التساؤل عن ما قبل العقل البشرى، فهو يتساءل ويوجه السؤال إلينا فى نفس الوقت كما يلى:

  • “ما الذى تفكر فيه النملة”
  • “لماذا لا تحس النسور بالغثيان من الجثث التى تأكلها متعفنة؟ (أو لعلها تحس؟!!)
  • هل يمكن للعناكب أن تفكر؟ أو أنها مجرد روبروتات صغيرة الحجم،

ويظل يتساءل المؤلف هكذا حتى يصل إلى طرح السؤال الشامل الذى يقول:

– هل يمكن أن تكون كل الحيوانات والنباتات – حتى البكتريا- لها عقول؟

ثم ينقلنا بجرأة أعنف إلى سؤال فرعى يقول:

– هل نحن جِدّ واثقين من أن كل أفراد البشر لهم عقول ؟

هو يطرح عدة أفكار تنبه إلى احتمال الخطأ (الذى يصل إلى درجة أن يكون موقفاً لاأخلاقيا) إذا نحن حكمنا على غيرنا من حيث أنه “يعقل” أو “لايعقل” لمجرد أنه يختلف عنا، أو عن ما نتصوره عن عقولنا.

ثم هو يؤكد ضرورة الانتباه إلى أن “الوجود شئ“، (الأنطولوجيا) وما يمكن أن نعرفه عن هذا الوجود شئ آخر (الإبستمولوجيا)

تعدد مستويات الوعى (تعدد العقول)

ما يهمنى فى كل هذا هو أن تعرف كيف نتعامل مع ظاهرتى الصحة والمرض ونحن نضع فى الاعتبار تعدد مستويات الوعى وحركيتها (تعدد العقول ونشاطها الإيقاعى خاصة).

 1-12-2010-C

شكل يبين – رمزيا – تعدد مستويات الوعى (حالات الوعى- تعدد العقول – تعدد برامج البقاء) فى ترتيب هيراركى غير ملزم ، خاصة فى كل من “حالة الجنون” و”حالة الإبداع”

توضيح مبدئى:

فى حدود ما يهمنا الآن ينبغى أن أقدم ابتداءً بعض الملاحظات التى تخص استعمالى لكلمة “الوعى” كما سوف نأتى هذا السياق للمقارنة (3)

  • الوعى ليس الحالة التى هى ضد “اللاوعى” (اللاشعور)، هذا المفهوم الشائع قد اختصر ما يسمى الوعى إلى حالة الصحو واليقظة والشعور الظاهر، فى حين أن اللاوعى هو عكس ذلك، مع أن التفكير من منطلق تطورى، وحسب الشرح السابق يؤكد أن اللاوعى هو وعى ووعى ومستويات وعى كثيرة، هى تعدد العقول التى قال بها دينيت، فالإنسان ما زال يحتوى كل البرامج البقائية التى حفظت الأنواع قبله.
  • الوعىهو برنامج حيوى بقائى قادر أساسى على تأدية وظائف ضرورية لكائن بذاته فى مرحلة تطور بذاتها،
  • مع مفهوم تعدد الذوات نفترض أن لكل “حالة ذات” (إريك بيرن) وعى خاص بها، يظهر معها ويوجهها ويصفها ويميزها، وبالتالى يكون الوعى بلغة إريك بيرن أقرب إلى ما يسمى “حالة الذات” Ego State وبالتالى يوجد أكثر من وعى يتبادل مع بعضه البعض حسب الموقف والهدف والمجال
  • بلغة العلم المعرفى العصبى Cognitive Neuroscience الوعى هو أقرب إلى ما يسمى Mental state وهو هو – فى تقديرى ما يقابل حالة الذات، إلا أن المقصود بـ “حالة العقل” أشمل من المقصود من حالات الذات عند إريك بيرن، إذ قد تشمل أيضا ما أسماه بيرن “وحدات الذات” Ego units طولا، وحالا.
  • من كل ذلك ينبغى أن نستقبل الحديث هنا عن الوعى بما يمثله من حضور كلى، متعدد متبادل، جاهز للتشكل والشكيل، وفى نفس الوقت فكل عقل لوعى، هو متسق مع محتواه الخاص وتختلف علاقته مع المستويات (العقول) الأخرى حسب حالة الصحة والمرض، السكون والبسط، التحريك وإعادة التشكيل.

******

وبدءاً من الأسبوع القادم سنتناول المصطلحات الخمس واحدة واحدة دون جدولة لإمكان تقديم مفهوم متكامل متميز لكل مصطلح.

[1] (يلاحظ استعمال حرف an بما يعنى أنها مجرد إحدى محاولات الفهم، وهو تواضع علمى يناسب هذه المؤلف الرائع).

[2] – إن من أهم الأسباب التى جعلتنى أحب هذا الكتاب وكاتبه هو دفاعه الموضوعى عن نظرية النشوء والارتقاء وأصل الأنواع لداروين (ووالاس)، جنبا إلى جنب مع شجاعته وهو يقتحم تلك هذه المنطقة المشكلة الخاصة بالوعى، معظم أعمال المؤلف التى شدتنى إليه هى إنجازاته فيما يتعلق بالتطور (الداروينى خاصة) ومستقبل تطور الإنسان المعرفى والبيولوجى، وأيضا إسهاماته فى فحص مسألة علاقة الوعى بالعقل، وكل ذلك هو ما لا أتصور أن طبيبا نفسيا يمكن أن يمارس مهنته بما ينبغى كما ينبغى، دون أن يلم بها .

– من أهم أعمال الكاتب الأحدث فى هذين المجالين ما يلى :

 العمل الأول “معاودة المواجهة لمشكلة الوعى”

        هل استطعنا أن ننجح فى شرح ماهية “الوعى” أم ليس بعد؟

“Facing Backward on the problem of consciousness”

Are we explaining consciousness yet?

 Cognition 79 (2001) 221-237

[3] – حتى نعود إليها فى كتاب الإساس الكتاب الثانى: السيكوباثولوجية الوصفية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *