الرئيسية / نجيب محفوظ / مقالاتي عن نجيب محفوظ / تعتعة الوفد : “وما زال نجيب محفوظ يعلمنا” (1) متى ينتهى هذا العذاب؟

تعتعة الوفد : “وما زال نجيب محفوظ يعلمنا” (1) متى ينتهى هذا العذاب؟

نشرة “الإنسان والتطور”

18-12-2011

السنة الخامسة

العدد:  1570

 

تعتعة الوفد

“وما زال نجيب محفوظ يعلمنا” (1) متى ينتهى هذا العذاب؟

سوف أظل شاكرا للمجلس الأعلى للثقافة، وبالذات للأستاذ الدكتور جابر عصفور، والأستاذ الدكتور حسين حمودة وكل أعضاء لجنة المحافظة على تراث نجيب محفوظ على إصدار دورية نقد أعماله، فالاحتفال الحقيقى بمن أعطى كل هذا هكذا بكل هذا الصدق والإبداع هو مواصلة النهل من معينه نقدا، ونقدا للنقد بلا انقطاع، فيظل بيننا أبدا، يعلمنا متجددا

****

الحلم‏ : 3 (فترة النقاهة)

هذا سطح سفينة يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه وهو يحرك رأسه بعنف يمنة ويسرة ويهتف من أعماقه الجريحة

متى ينتهى هذا العذاب؟

وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول

وتساءل صوت:

من فعل بك ذلك؟

فأجاب الرجل المعذب ورأسه لا يكف عن الحركة

أنا الفاعل

لماذا؟

هو العقاب الذى أستحقه

عن أى ذنب؟

فصاح بغضب:

الجهل

فقلت له:

عهدنا بك ذو حلم وخبرة

جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد

وارتفع صوته وهو يقول:

وجهلتُ أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يَهُن شأنه

وغَلَبنا الحزن والصمت.

النقد:

نبدأ من الآخر:

ها هو شيخنا يعلمنا أن “الغضب استعداد فى كل فرد“،” ثم أن: أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يَهُن شأنه”.

 يبدو أن هذه البديهيات التى نتصور أنه لا جدال حولها، خاصة ونحن نرددها ليل نهار، ونتصور أننا بمجرد أن ننطقها قد حققناها، يبدو أن حلم محفوظ هنا ينبهنا إلى احتمال أننا فى حقيقة الأمر – ننساها– حتى لو ظللنا نرددها دون أن نختبر خداعنا لأنفسنا لممارستها بتسطيحٍ أو تزييفٍ أو كذب.

شغلتنى كثيرا من زمن باكر طبيعة هذا الغضب الإيجابى، حين رحت أدافع عن الوجه البقائى لغريزة العدوان (: مجلة الإنسان والتطور 1980) التى عادة ما ننكر دورها الخلاقّ خوفا من حضورها التحطيمى السلبى الأشهر. حين ننكر هذا الحق (حق الغضب المرتبط بغريزة العدوان) جهلاً أو تجاهلاً، فنحن نختزل طبيعتنا البشرية فنستحق العقاب، هذا هو بعض ما بلغنى مما يمثله هذا الرجل المقيد نفسه على عامود السفينة؟

الجهل أيضا خطيئة تختزل الإنسان، والجهل هنا هو تجاهل فإنكار : ليس فقط جهلنا بحقنا فى الغضب ، لكنه أيضا حين نخص الكرامة (التى أكرم الله بها كل خلقه)، بفئة دون أخرى، وسواء فهمنا كيف أن الكرامة نابعة أساسا من أن الله “كرم الإنسان”، من حيث هو إنسان، أو فهمناها بذاتها لذاتها بمعنى العزة والحرية والإباء، فإن جهلنا بها أو تخصيصها لفئة من البشر دون أخرى يترتب عليه ذنب آخر يستحق نفس العقاب، أو مضاعفته، وهو ما قام به هذا الحلم: كصدمة إفاقة.

الذى يجهل (يتجاهل/يُنْكر) حق الغضب (مع أنه استعداد فى كل فرد)، كما يجهل (يتجاهل/ينكر) أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة، لابد أن يدفع الثمن؟ وهو نفسه الذى يصدر الحكم على نفسه “كَفَى بِنَفْسِكَ اليِوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبٍا” .

لكن: كيف يكون الجهل جريمة تستحق العقاب؟ أى ذنب اقترفه هذا الجاهل؟

مسرح الحلم هو سطح سفينة، هل هى مقابل سفينة نوح؟ “صدمة الإفاقة” التى يحملها لنا الحلم، ونحن نركب فلك الحياة المترامية الآن، هى نذير محفوظ لنا، لعله ينقذنا من الاغتراب التخديرى الحالى المُعَوْلم الذى يدفع فاتورته الأفقر والأجهل والأجبن.

بالصدفة البحتة بعد أن كتبتُ المسودة الأولى لنقد هذا الحلم وصلنى من زائرة (قارئة) كريمة تعليقا على معلومة جعلتنى أعيد النظر فى نقد الحلم، فيصبح أكثر وضوحا، تقول هذه المعلومة “… طلب “هوشى منّهً” قائد الثورة الفيتنامية من رفاقة أن يربطوه بسارى مركب، ولا يفكوه مهما تأثروا بصراخه، حتى يتسنى له الكف عن تعاطى الأفيون“. هزتنى هذه المعلومة وأنا أربطها بحدس نجيب محفوظ الإبداعى برغم عكس الرسالة، ذلك أن “هوشى منّهً” يربط نفسه “ليفيق من المخدّر”، فى حين أن رجلنا هنا يربط نفسه “عقابا” على أنه استسلم لتخدير الاختزال والاغتراب وتشويه الفطرة.

ما وصلنى من تشكيل هذا الحلم أن نجيب محفوظ يبلغنا بهذا الحلم أنه: مهما بدا العقل الفوقى حليما وحكيما، ومهما بدا يقظا متلفتا، فهو قاصر عن الإحاطة بكلية الوجود، لأنه أغلق بقية قنوات المعرفة بما فى ذلك المعرفة عبر “الحركة” و”الجسد”.

العلم المعرفى الحديث (خاصة فى العشرين سنة الاخيرة)، يحاول تصحيح هذا الذى لحق بالوجود البشرى اختزالا واغترابا حتى التخدير، وذلك حين يذكرنا أن العواطف لها برامجها المعرفية، وأن الجسد (بما هو جسد) يشارك فى التفكير والإبداع كما يعلمنا متصوفونا ومتصوفوا العالم – المبدعون بالضرورة– أهمية بقية قنوات المعرفة المشارِكة مع (وليست البديلة عن) العقل المنطق الأحدث.

وهكذا يحدد هذا الحلم بصورة تشكيلية شديدة الإيجاز والتكثيف هذه القضية على الوجه التالى:

(1) إننا قيدنا وجودنا كله، حتى الشلل حين حلّ هذا الرأس المتلفِّت: العقل الفوقى، محل حركتنا الاستكشافية المعرفية الكلية (الإيمانية).

(2) إنه سواء كان التلفت إلى اليمين (أى يمين) أو إلى اليسار (أى يسار)، فالنتيجة واحدة والضياع واحد، والكرامة مهزوزة، والعقاب حتمى.

(3) إن هذا الاغتراب التخديرى المُعقْلَنْ إنما يجرحنا فى غور وجودنا إذ يختزلنا حتى تستغيث أعماقنا “متى ينتهى هذا العذاب”.

لكن مَنْ هؤلاء الثلاثة الذين ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول؟

خطرت ببالى عدة احتمالات لرقم “3” هنا، رفضت إثباتها جميعا خوفا من التعسف. أما هذا الصوت: الذى يتساءل: “من فعل بك ذلك؟ فقد يكون صوت أحد الثلاثة، كما يمكن أن يكون صوت الزمن، أو صوت الشخص المقيد على السارى (وهو على نفسه بصيرة).    

ننبه أيضا إلى أن العقاب هنا هو أن يعيش الإنسان ناقصا عاجزا مقيدا معاقا برغم حدة انتباهه “فى المحل”.

ثم أن الرجل لم يكن مشدودا إلى صليب يتطهر عليه بالألم بل كان مقيدا بحبال عقله الأعلى المغترب.

هذا العقاب تجسد لى فى الحرمان من بقيه مناهل المعرفة من ناحية، سواء كانت المعرفة بالجسد أم بالحدس أم بالحركة أم بالوجدان، كما تجسد من ناحية أخرى فى العزلة والعجز والذبذبة البندولية بين اليمين واليسار.

النهاية:

أرجو أن ينتبه قارئ الحلم لنهايته بدقة مناسبة، ذلك أن الحزن والصمت لم يكونا فقط وصفا لمشاعر المحكوم عليه بالقيد والجمود، حتى لو شعر بالذنب، وعاقب نفسه هكذا، واعترف بجريمة الجهل. نهاية الحلم كانت حزن وصمت الجماعة: “الثلاثة أو الثلاثة زائد الصوت أو الثلاثة زائد الصوت زائد الرجل المقيد، أو نحن جمعيا بنى البشر“، وغَلبَنٌا الصمت والحزن!!

حزننا هو لهذا الانقسام الذى بتر الوجود البشرى إلا من عقله الأعلى المتمنطق حتى لو اتصف بالحلم والخبرة. ربما يكون هذا هو الحزن الدافع الأقوى لتحمل صعوبة وغموض وضرورة “العلاقة بالآخر” فى آن.

أو لعله الحزن الذى هو التفاعل المناسب المصاحب لصدمة تعرية الحقيقة.

وصلنى الصمت بعد هذه الرؤية على أنه ذلك الصمت المحرِّك المفعم بوعود اليقين وضرورة مواصلة السعى الممتد كدحاً إليه.

نحن – كبشر–  ليس عندنا ذوات ثابتة تحدد ماهيتنا بشكل ثابت، لكننا نخلـّقنا تخليقا طول الوقت. نرى ملامح بعض ذلك فى هذا النص المحفوظى المكثف بما يمثله كل من: الصوت المتململ، والبصيرة المستعادة، وأخيرا ثنائى: “الصبر والصمت”. بلغنى الصمت هنا باعتباره لغة أخرى أعمق وأهم إذ هى تتصل بالزمن القادر على احتواء الحركة، دون أن تـُجهض بالإفراغ فى رموز متاحة أو مفاهيم مغلقة (الكلام والتفكير المعقلن)، كما أن الحزن فى هذا السياق (وهو غير الاكتئاب/الإنهباط) إذا ما امتزج بالغضب فهو الحزن الحيوى الذى يعلن الوعى اليقظ المغامر بعمل علاقة حقيقية مع “الآخر” برغم صعوبتها الموضوعية، الأمر الذى يحافظ على الإنسان إنسانا، ومن ثم الكرامة !!

الحلم صورة حية. هو تشكيل آنىّ، وهو فى نفس الوقت حركة مستثارة مثيرة لأكثر من توجه معا، ثم هو تجاورٌ وتجاوز للزمن فى آن. وهو ليس رموزا جاهزة، ولا مجرد تحقيق رغبة!

شكرا يا شيخنا

 وكل مائة عام وأنت بخير،  تباركنا وتحافظ على دفعنا إلى ما كنت ترجو لنا، ونحن من ناحيتنا: نعاهدك على أن نحافظ على ما تركت لنا، وما تركت فينا، نقدا وتعلما ومراجعة، ولا يحزنك أمرنا الآن فأنت تعرف عراقة عناد المصرى وصبره وقوته جميعا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *