الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الثلاثاء الحرّ: عن الحرية، والحزن، والجنون، والإبداع

الثلاثاء الحرّ: عن الحرية، والحزن، والجنون، والإبداع

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء: 12-3-2013

السنة السادسة

العدد: 2020       

الثلاثاء الحرّ:

عن الحرية، والحزن، والجنون، والإبداع

مقدمة:

لأن الثلاثاء حرًّ فعلا، فقد قرر فجأة أن يجمع المقالات الأربع المتتالية فى “أخبار الأدب” عن “الحرية والجنون والحزن والإبداع” (من 24-2-2013 إلى 17-3-2013)، لينشرها مجتمعه برغم ما سبق نشره بتفصيل عن الحرية عموما فى خمسة عشر نشرة فى نشرات: “(ماهية الحرية، والصحة النفسية) من نشرة 28-12-2010 إلى نشرة 4-1-2012، بالإضافة إلى عشر نشرات تم نشرهم فى: (رؤى ومقامات)، “عن الحرية..” من نشرة 9-11-2009 إلى نشرة 11-1-2010 .

وقد وافقت حيث بدا لى أن الإيجاز الذى أعيد به نشر بعض ما جاء فى تلك النشرات التفصيلية قد يكون أكثر فائدة لمن أراد أن يلمّ نفسه بعد إعادة التحرير هكذا:

* * * *

الحرية والإبداع والجنون  (1من4)

المخرجة (الفرنسية): ماذا عن الحرية، وما هو موقفك منها؟ نجيب محفوظ: موقفي؟!!!!! الحرية هي المفتاح الذي نهتدي به إلي الإنسانية الحقيقية، هي الأساس في التفكير لمعرفة أي جديد أو أي حسن، لا يمكن أن يحصل أي تقدم في العلم أو الفن أو العلاقات من غير حرية، هي جوهر الإنسان، الإنسان مخلوق ليحقق حريته

المخرجة :  هل هناك وضع خاص للكاتب بالنسبة للحرية ؟

نحيب محفوظ :  بالنسبة للكاتب، ! هي حياته

المخرجة :  إلي أي مدي يمكن أن يصل دفاعك عن الحرية ؟

 نحيب محفوظ:  مدي ؟!! (ضحك) إلي المدي الذي يجعل ما حدث يحدث (وأشار إلي رقبته)..

هذا المقطع هو من الحديث الذي أجرته المخرجة الفرنسية مع نجيب محفوظ في بيت توفيق صالح، أثناء  تسجيلها لجلسة من لقاءات الحرافيش 

من هذا المنطلق، ومع تحذيري المستمر للشباب خاصة ألا يخدعوا كثيرا في الشعارات، وأن يدققوا في مضمونات المطالب، توقفت عند كلمة احريةب التي وردت في شعارات/مطالب مشروع الثورة، وباعتبار أن الثورة إبداع جماعي، وأن الفوضي جنون جماعي، قلت أسارع من خلال هذه النافذة الجديدة الكريمة بقول ما عندي لعله يسهم في قلب الجنون المهدِّد إلي إبداع خلاق والله المستعان.

الطارئ الإشكالي الذي لحق بالإنسان الإنسان: هو أنه أصبح واعيا بذاته بشكل  سمح له بأن يميز بين ما هو “ذات”، وما هو ليس كذلك، فراح  يمارس حياته فارقا بين  ما هوبأناب وما هو ليس “أنا”، هذه النقلة الرائعة هي في نفس الوقت محنة حقيقية، ذلك أنها قد هيأت لهذا الكائن الجديد مساحة غير مسبوقة من الحركة المتنوعة التي عرفت في ظاهر السلوك باسم “الحرية”. من فرط فرحته بها، وأيضا من فرط عماه عن حدودها وخداعها، راح يتغني بما تصور أنها تعنيه حتي قدّسها، وإذ تقدست أصبحت صنـما في ذاتها لذاتها، فحرمَ  نفسه من معايشة زخم  حركيــتها، وتنويعات جدلها.

هذا الوهم الجميل  المسمي “الحرية”، أوقع الإنسان في عدد من المضاعفات، بقدر ما أعطاه قدراًً متزايداً من الفرص للتطور المسئول، الخطِـر في آن.  بالَغَ إنسان العصر الحديث بوجه خاص في تقييم معني وقدرات هذه النقلة النوعية حين أصبح هو الكائن الحي الواعي الذي ايستطيع»!، أو الذي ايتصور أنه يستطيعب!!.  أليس هو الكائن الوحيد – في حدود ما نعرف- الذي أصبح قادرا أن يقرر لنفسه بنفسه مسارا وتوجـُّها واختيارا، بحيث أصبح عاملا فاعلا في تحديد كثير من تفاصيل سلوكه، بما يمتد إلي مصير نوعه؟

تجلي الانخداع بهذه النقلة النوعية (اكتساب الوعي بالذات، في مواجهة ما ليس ذاتا، وقدرة المشاركة في تقرير المصير/الحرية) في مجالات عدةّ وبآليات متطورة قادرة، إلا أن تلك الآليات، علي حداثتها، قد تمادت في غرورها حتي كادت تنحرف بمسار التطور إلي الهلاك. أهم تلك الآليات هو ما سمي »العقل« (وهو ليس إلا جزءاً حديثاً من تاريخنا الرائع) حيث راح العقل البشري الأحدث يختزل التاريخ الحيوي بكل زخم عطائه وفخر نجاحاته عبر تاريخ التطور الطويل إلي ما يدخل في حدود فهمه ومقاييسه، بما في ذلك اختزال الإيمان  إلي منظومات مغلقة، قد تختزل الدين إلي ما هو شريعة ثابتة، وأيضا كاد يختزل زخم الحرية وهيراركية الوعي وتفريعاته إلي ما يسمي »الديمقراطية«. وهكذا أصبحت المعارف حكرا علي ما يقره هذا العقل، كما أصبح تفسير الأديان بنشاط عقول فئة بذاتها من البشر الأوصياء، بديلا مستبعدا غالبا لحركية الإيمان إبداعا إلي وجه الله.

* * * *

 الحرية والجنون فالإبداع  (2 من4)

‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏نحيط‏ ‏بماهية‏ ‏الحرية‏ ‏الضرورية‏ ‏لحركية‏ ‏الإبداع‏ ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏غامرنا بزيارة ‏أعماق‏ ‏الوعى ‏البشرى وجوديا ‏وبيولوجيا‏ ‏‏عبر‏ ‏مسار‏ ‏التطور‏، ‏الذى ‏هو‏ ‏نفسه‏ ‏دليل‏ ‏خطير‏ ‏على ‏عمق‏ ‏قضية‏ ‏الاختيار‏، ‏طالما‏ ‏أن‏ الانقراض هو الاحتمال الغالب وأن ‏انقراض الجنس البشرى‏ ‏تهديد‏ ‏وارد، وخاصة بعد ما اصاب العالم من لوثه العولمة وافتراسية التراكم فالاستغلال.

وبرغم أن الحاجة إلى تناول علاقة الحرية بالإبداع هى ألزم وأكثر وعدّا إلا أننى فضلت أن أبدأ بمناقشة علاقة الحرية بالجنون لأعرى سلبياتها المحتملة قبل الانتقال إلى علاقة الحرية بالإبداع عبر مغامرة تشبه الجنون.

يقف الجنون متحديا ‏فى ‏بؤرة‏ ‏إشكالة‏ ‏الحرية ‏فهو‏ ‏من‏ ‏ناحية‏: ‏يعلن‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏الاختلاف‏ ‏على ‏حساب‏ ‏أى ‏مكسب‏، ‏وباقتحام‏ ‏أى ‏مجهول‏، ‏فهو‏ ‏بذلك يمارس‏ ‏أحد‏ ‏مظاهر‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏أقصى ‏قدراتها‏ ‏الاقتحامية، ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى: هو ‏انسحاب‏ ‏كامل‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏المقومات‏ ‏الضرورية‏ ‏لاختبار‏ ‏حقيقة‏ ‏الحرية‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الآخر‏/‏والواقع‏، ‏وهو‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏ثالثة‏: ‏استسلام‏ ‏للداخل‏ ‏القابع‏ ‏فى ‏الظلام‏ ‏عادة‏، ‏بما‏ ‏يؤدى ‏إلى ‏نفى ‏الحرية‏،‏ ‏ليتركنا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الوجود‏ ‏الخاوى ‏إلا‏ ‏من‏ ‏التناثر‏ ‏المختلط‏ ‏المرجرج‏ ‏فى ‏المحل‏.

‏بإيجاز‏ ‏يمكن‏ ‏إعادة‏ ‏الصياغة‏ ‏بألفاظ‏ ‏أخرى ‏تقول‏:‏

“إن‏ ‏المجنون‏ ‏يخترق‏ ‏الحواجز‏، ‏ويعيش‏ ‏التجاوز‏، ‏وهو يقفز‏ ‏فوق‏ ‏أسوار‏ ‏اللغة‏ ‏بلا‏ ‏لغة‏، ‏وهو‏ ‏يلعب‏ ‏بالزمن‏‏، ‏لا‏ ‏يتبعه‏، ‏ولا‏ ‏يقع‏ ‏فيه‏،  ‏لكنه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ هو قد ‏ينتهى ‏إلى ‏هـلامية‏ ‏ساكنة‏، ‏حتى ‏لو‏ ‏ترجرجت‏ ‏فى ‏مكانها‏، ‏وكأنها‏ ‏تتحرك‏. إن‏ ‏المجنون‏ ‏الحر‏ ‏الطليق‏ ‏هو‏ ‏فى ‏و‏ ‏اقعه‏ ‏دائر‏ ‏فى ‏محله‏ ‏فى ‏انغلاق‏ ‏‏متناثر‏، ‏فلا‏ ‏هو‏ ‏حر‏ ‏ولا‏ ‏هو‏ ‏طليق‏.

 هكذا‏ ‏ينفى ‏الجنون‏، ‏الذى ‏يبدو‏ ‏لأول‏ ‏وهله‏ ‏وكأنه‏ ‏الحرية‏ ‏الكاملة‏، ‏ينفى ‏الحرية‏ ‏تماما‏ ‏وهو‏ ‏يجتثـها‏ ‏من‏ ‏جذورها‏. ‏مع‏ ‏أن‏ ‏الحرية‏ ‏فى جوهر حركيتها تبدو‏ ‏حتمية‏ ‏وهى تسمح باختيار‏ ‏الجنون‏، فنُفاجأ فى نفس الوقت أن  ‏الجنون‏ ‏هو‏ ‏فى ‏النهاية‏ ‏مقصلة‏ ‏الحرية‏”.‏

الجنون‏ ‏ – إذن – هو‏ ‏فعل‏ ‏الحرية‏ ‏لتستحيل‏.‏

فى ‏الجنون‏: ‏الحرية‏ ‏تنتحر‏ ‏اختيارا‏. ‏المجنون‏ ‏يختار‏ ‏أن‏ ‏يحرم‏ نفسه من‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الاختيار‏.

الممارسة اليومية تُعلـِّمنا كيف أن  ‏المجنون‏ – ‏بجنونه‏- ‏إنما‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏طريقا‏ ‏آخر‏، ‏وأنه‏ ‏استطاع‏ ‏على ‏الرغم‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏أن‏ ‏يرفض‏ ‏السائد‏ ‏الآمِـن‏، ‏وأن‏ ‏يتحدى، ‏ليسلك‏ -‏منفردا‏- ‏الصعب‏ ‏المجهول‏ (‏ثم‏ ‏يفشل‏).

‏إن‏ ‏فهم‏ ‏مسألة‏ ‏اختيار‏ ‏الجنون كمهرب أوحلٍّ نابع من وعى غائر‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏التسليم‏ ‏بأساسين‏:

 ‏الأول‏: ‏تعدد‏ ‏الذوات‏، ‏فى ‏الشخص‏ ‏الواحد، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏يكون‏ ‏اختيار‏ ‏أى ‏ذات‏ ‏منها‏ ‏على ‏حدة‏ ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الحرية‏، ‏حتى ‏ولو‏ ‏بدا‏ ‏على ‏حساب‏ ‏الذات‏ (‏الذوات‏) ‏الأخرى. فى ‏الجنون‏; ‏يكون‏ ‏الاختيار‏ ‏الغالب‏ ‏هو‏ ‏فعل‏ ‏الذات‏ ‏الكامنة‏ ‏دون‏ ‏الظاهرة‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏، ‏ثم‏ ‏تقتحم‏ ‏الذات‏ ‏الكامنة‏ (‏البدائية‏ ‏عادة‏) ‏لتقود‏، ‏فيكون‏ الجنون‏ ‏هو: محصلة‏ غلبة ‏اقتحام ‏من قبل إحدى الذوات بالداخل ‏الكامن‏ ‏جنبا إلى جنب مع آثار هزيمة‏ الذات الظاهرة المرتبطة بالواقع والآخرين‏.

الثانى: ‏إن‏ ‏اختيار الجنون‏ ‏لا‏ ‏يظهر‏ ‏بشكله‏ ‏المباشر‏ ‏والمعترف‏ ‏به‏، ‏إلا‏ ‏بعد‏ ‏بداية‏ ‏الجنون‏ ‏نفسه‏، ‏بمعنى: ‏إن اكتشاف‏ ‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏كان‏ ‏اختيارا‏ ‏سابقا‏ من وعى كامن يعلن بعد تفعيل الجنون فى السلوك الظاهر، وعادة  يأتى الاعتراف بعملية الاختيار أثناء العلاج المكثف حيث يقر المجنون‏ ب‏اختيار ما هو فيه، بعد اطمئنانه إالى تفعيل اختياره واقعا خاصا ماثلا قويا يسمح له‏ بإعلان‏ ‏‏أن‏ ‏الأمر‏ ‏”كان‏ ‏اختيارا”‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏”سبق‏ ‏التوقيت”، ‏وهو‏ ‏بمثابة‏ ‏ ‏تأكيد‏ ‏اختيارٍ‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏اختياره.

وبعد

فماذا عن علاقة ذلك بالإبداع؟

وإذا كانت الثورة هى إبداع جماعى، ففى أى مرحلة توقفنا وكيف نكمل؟

* * * *

الحزن، والتنازل عن الحرية لإحيائها   ( 3 من 4)

مَسختْ مزاعم الرفاهية واستسهال التقليد وكثير من النفسيين “الحزن” حين أطلقوا عليه لفظ “الاكتئاب”، مع أن موقف الحزن الخلاّق هو الذى يميز الكائن البشرى وهو يمارس حريته فى حضور آخر. مُسخت الحرية أيضا حين اختزلناها فى المعنى السطحى القائل:  حريتى تنتهى عند بدء حرية الآخرين“، وأولى بنا أن نقول  :“حريتى تبدأ حين تلتحم جدلا ولافيا مع حرية الآخر”، أما الثمن الذى ندفعه لهذا الاقتحام المتبادل مع “آخر”  فهو الحزن العظيم، مهلا: إنه الثمن الذى نقبضه وليس الذى ندفعه،  ذلك لأن هذا الحزن الحيوى إنما يعلن حضور نوعية الوعى البشرى المتكامل (المتعدد معا) فى مواصلة سعيه للتفاعل الموضوعى مع وعى بشرى آخر يقوم بنفس الدور، فهو نتيجة تحمل مسؤولية الاعتراف بصعوبة التواصل وضرورته فى آن، فهو نوع ناضج من الحرية يكاد يختص به الكائن البشرى، إن ‏‏الاختبار ‏الحقيقى ‏لفعل‏ ‏الحرية‏ ‏لا‏ ‏يكون‏ ‏فى ‏فراغ، إذ لا بد من  ‏حضور”‏آخر” ‏موضوعى ‏ماثل‏ ‏تتم مواجهته والتفاعل معه على نفس المستوى .

  قلنا الأسبوع الماضى إن ‏ ‏المجنون (بدءا بالفصامى) قد ‏اختار‏ ‏أن‏ ‏يسلب‏ نفسه‏ ‏حق‏ ‏الاختيار‏  ‏بممارسة اختيار زائف حين اختار حرية الجنون ‏ بإرادة ‏ ‏جزئية ذاتية‏ ‏منغلقة‏ ، بمعنى أن الجنون هو فعل الحرية لتستحيل،  فى حين أن الحرية الحقيقية  إنما ترتبط بحضور الآخر فى الخارج وفى الوعى‏ ‏معا بكل‏ ‏موضوعيته‏ ‏وتحدياته، ومن ثم صعوباته مع ضرورته، هذا النوع من الاكتئاب يكاد يكون خاصا بالإنسان دون سائر الأحياء،  إن معايشة هذا الحزن اليقظ هو الدليل على قبول الواحد منا  أن‏ ‏يحافظ‏ ‏على ‏علاقته‏ ‏بالآخر‏، بالتنازل النسبى عن حريته، حين ‏لا‏ ‏ينسحب‏ ‏من‏ ‏مواجهته‏، ‏ولا‏ ‏يلغيه‏، ‏ولا‏ ‏يستبدله فى نفس الوقت، ‏ ‏وهو‏ ‏إذ‏ ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏يجد‏ ‏أن‏ ‏عليه‏ ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏الوعى ‏بحضور كلـّية‏ ‏الآخر‏ ‏وبمخاطر‏ ‏الاقتراب‏ ‏منه‏ مختلفا ‏ككلٍّ‏ ‏موضوعى، و هو يقوم بذلك دون يقين باستمرار هذا الحضور، فيعايش ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏يهجره‏ ‏هذا‏ ‏الآخر‏ طول الوقت، ‏فيتولد هذاالاكتئاب الحيوى أكثر إيلاما وحيوية ونبضا، وهو  يعلن حركـيّة الحرية  بشكل عميق متجدد‏. ‏اختيار‏ ‏الاستمرار‏ ‏مع آخر دون اختزال أو إجمال هو العامل الأساسى الذى يولد‏ هذا الحزن الحيوى الذى أسميته فى  العلاج: “‏إحياء‏ ‏ديالكتك‏ ‏النمو” حيث‏ ‏يهدف‏ ‏هذا‏ ‏العلاج‏ ‏إلى ‏تنمية‏ ‏الوعى، وليس التخلص من الحزن دون  تصنيفه. علاقة كل ذلك بالإبداع علاقة وثيقة تماما، وهو ما سنعود إليه لاحقا.

إن تعريفنا لما هو إنسان بأنه الكائن الذى اختار أن يحمل الأمانة حتى دون أن تُعرض عليه عندما اكتسب الوعى، ثم الوعى بالوعى، ثم راح يمارس عبء ما اكتسبه هذا مع كائن بشرى آخر له نفس المواصفات، هو الذى فرض علينا هذا النوع من الوجود المبدع  الذى أصبح هو هو ممارسة حريتنا من خلال قدرتنا على “أن نحزن معا” لنمارس حمل أمانة العلاقة مع بعضنا البعض معا، “لنفرح معا”، فنحزن معا، فنفرح معا ، لنتخلق معا من جديد، وباستمرار: فهو الإبداع

نختتم اليوم بأن نقول:  إذا كان الجنون هو فعل الحرية لتستحيل، وبالتالى فهو فى النهاية مقصلة الحرية، فإن الصحة الفائقة، المرادفة للإبداع، هى بمثابة “فعل الحرية لمداومة تخليق كائن مسؤول مشارك فى إعادة إبداع ذاته عضوا فى جماعة”، أو بتعبير آخر: إن الإبداع الحياتى يشمل التنازل عن الحرية لإحيائها، بما يشمل المعايشة الإيجابية لذلك الحزن الحيوى النمائى العظيم.

* * * *

الحرية للإبداع، أم حرية نشرالإبداع! (4 من 4)

الحديث عن حرية الإبداع يجرى هذه الأيام على قدم وساق، وهو يتركز على الخوف من قيود النشر، وفرط الرقابة ومصادرة المتجاوز بعد تخفيض السقف بما يناسب طول الأقزام، لكن ياليت المسألة تقتصر على هذا، فثم حرية أخرى مهددة أكثر، وهو أن يصل القهر إلى داخلنا فتختنق حركية الابداع أصلا ولا يظهر منا إنتاج طليق وأصيل إلا فى حدود ما تسمح به أسوار السجن الذى سجنونا فيه أو سجنا أنفسنا داخله ونحن لا ندرى.

الحرية‏ ‏فيما‏ ‏يتعلق‏ ‏بحركية‏ ‏الإبداع‏ ‏لا‏ ‏تبدأ‏ ‏بحرية‏ ‏التعبير‏، ‏ولا‏ ‏تنتهى ‏بحرية‏ ‏النشر‏ ‏فالنقد، لا‏ ‏إبداع‏ ‏بلا‏ ‏حرية‏ ‏حقيقية‏. ‏ولا‏ ‏حرية‏  ‏بغير‏ ‏حركية‏ ‏مرنة‏ ‏مغامرة‏، ‏ولا‏ ‏حركية‏ ‏مرنة‏ ‏مغامرة‏ ‏بغير‏ ‏جدل‏ ‏غامض‏، ‏ولا‏ ‏جدل‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏حضور‏ ‏عدد‏ ‏من‏ ‏المتناقضات‏ ‏المتضفرة‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏وعى ‏خلاق‏ ، ‏يتخلق‏ ‏مع‏ “‏آخر‏” ‏يمارس‏ ‏نفس‏ ‏العملية‏ ‏من‏ ‏زاويته‏ ‏بطريقته‏، ‏وهكذا‏…‏

كل الأحياء قبل الإنسان تمارس حريتها وإبداعها بطفرة تطور للنقلة من نوع إلى نوع، وهو أمر محكوم ببرامج وطبيعة وقيود تحرمه من الوعى باختياره، ولا يحدد نجاحه إلا نجأته من الانقراض، الإنسان هو الكائن الوحيد الذى عنده الفرصة للإسهام فى التخطيط لنقلته التالية من خلال ممارسته حرية الإبداع واستشراف المستقبل.

الإبداع‏ ‏البشرى ‏كما‏ ‏نعرفه‏ ‏ونمارسه‏ ‏أصبح‏  ‏محنة‏ ‏الإنسان‏ ‏وشرف‏ ‏تمتعه‏ ‏بالوعى ‏فى ‏آن‏، ‏وهو‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏اختبار‏ ‏لأحقية‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏المشاركة‏ ‏فى ‏مسار‏ ‏تطوره‏. ‏الشروط‏ ‏الواجب‏ ‏توافرها‏ ‏لحرية‏ ‏حركية‏ ‏العملية‏ ‏الإبداعية‏ ‏غير‏ ‏الشروط‏ ‏اللازمة‏ ‏لإمكان‏ ‏الإعلان‏ ‏عن‏ ‏ناتج‏ ‏العملية‏ ‏وتسويقه‏، ‏لكن‏ ‏العلاقة‏ ‏بينهما‏ ‏وثيقة‏ و‏دالة‏.‏

حتى ‏تتحقق‏ ‏العميلة‏ ‏الإبداعية‏ ‏فى ‏رحاب‏ ‏الوعى ‏والإرادة‏، ‏ثمة‏ ‏شروط‏ ‏وفاعليات‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏توفرها‏ ‏بدرجة‏ ‏مناسبة‏، ‏نورد‏ ‏أهمها‏ ‏كما‏ ‏يلي‏: ‏‏1- ‏مساحة‏ ‏كافية‏ ‏لاستيعاب‏ ‏حركية‏  ‏الوعي‏.‏ ‏2- ‏تنشيط‏ ‏لأكثر‏ ‏من‏ ‏مستوى ‏من‏ ‏الوعي‏”‏معا‏”.‏ 3- ‏القبول‏ ‏بدرجة‏ ‏من‏ ‏المخاطرة‏.‏ ‏4- ‏حركية‏ ‏مناسبة‏ ‏ذات‏ ‏توجه‏ ‏جدلى ‏ضام‏.‏ ‏5- ‏قدرة‏ ‏على ‏التناوب‏ ‏بين‏ ‏الكمون‏ ‏والبسط‏.‏

كل هذا ليس علاقة مباشرة بحرية النشر والتواصل من خلاله، وإنما هو يتعلق أساسا بالحرية الداخلية للمبدع للإنسان، أهمية‏ ‏هذا‏ ‏الفصل‏ ‏بين‏ ‏الحرية‏ ‏الضرورية‏ ‏لتحريك‏ ‏عملية‏ ‏الإبداع‏، ‏والحرية‏ ‏اللازمة‏ ‏لنشر أو تسويق‏ ‏ناتجه‏ ‏ليست‏ ‏أهمية‏ ‏نظرية‏. ‏إن‏ ‏الاهتمام‏ ‏بالأخيرة‏ ‏دون‏ ‏الأولى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏ما يخدع المبدعين الحقيقين إذا رضوا بها واكتفوا بذلك‏.

الحرية اللازمة للإبداع الأصيل إنما‏ ‏تتعمق‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏ ‏وهى ‏تحاول‏ ‏اختراق‏ ‏الحواجز‏ ‏الخارجية،‏ بعد‏، ‏ومع‏ ‏الحواجز‏ ‏الداخلية‏ طول الوقت، ‏وقد‏ تقوم ‏المؤسسات الفوقية الخبيثية‏ ‏باختلاق‏ ‏قضايا‏ ‏زائفة‏، ‏أو‏ ‏فرعية‏، ‏تلهى المبدع بها وتغريه‏ ‏بخوضها‏، ‏وهو‏ ‏يتصور‏ ‏أنه‏ ‏يصارع‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏حريته‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يخدم‏ ‏إلا‏ ‏تشويهها‏، ‏وتزييفها‏. نتذكر‏ ‏مثلا‏ ‏سماح‏ ‏السينما‏ ‏الأمريكية‏ ‏بشجب‏ ‏حرب‏ ‏فيتنام‏ ‏لتفريغ‏ ‏طاقة‏ ‏معارضيها‏، ‏فتستمر‏ ‏الحرب‏ ‏أطول‏، أو ونحن نتابع حاليا تسويق الحرية الأمريكية المعوْلمة لتفكيك العالم العربى لصالح استغلاله وتبعيته، أو كما ‏يجرى ‏قصدا‏ ‏أو‏ ‏مصادفة‏ ‏من‏ ‏تصنيع‏ ‏غرائز‏ تستولى على الحرية فى حين أنها ‏مانعة‏ ‏للحرية‏ ‏مسايرة‏ ‏لما‏ ‏يغلب‏ ‏عند‏ ‏القطيع‏ ‏البشرى ‏فى ‏وقت‏ ‏بذاته‏. ‏ثم‏ ‏العمل‏ ‏على ‏تقديسها‏ ‏تسليما‏، ‏وعادة ما تحمل ‏هذه‏ ‏الغرائز‏ ‏المانعة‏ ‏للحرية‏ ‏‏أسماء‏ ‏تغرى ‏بأنها‏ ‏تنتمى ‏إلى ‏ما‏ ‏هو‏ ‏حرية‏ ‏وتحرر‏ ‏مثل‏ ‏منظومة‏ ‏العقل الظاهر‏، ‏ومنظومة‏ ‏العلم المؤسسى‏، ‏ومنظومة‏ ‏الديمقراطية الصناديقية، ومنظومة حقوق الإنسان المكتوبة،‏ ‏ومنظومة‏ ‏احتكار‏ ‏تفسير‏ ‏الدين‏، ‏ومنظومة‏ ‏الطب‏ ‏التقليدى، كل ذلك قد يخلق رقابة داخليةزائفة وخانقة معا.

ولهذا حديث آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *