الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس فى العلاج الجمعى (2) الجزء الأول (فى البحث العلمى والعلاج الجمعى)

الأساس فى العلاج الجمعى (2) الجزء الأول (فى البحث العلمى والعلاج الجمعى)

نشرة “الإنسان والتطور”

الاثنين: 4-2-20134-2-2013_1

السنة السادسة

العدد: 1984

كتاب:

الأساس فى العلاج الجمعى (2)

من منظور ثقافة مصرية عربية

الجزء الأول

(فى البحث العلمى والعلاج الجمعى)

1- اختيار البحث

2- تاريخ التجربة

3- طريقة البحث وصعوباتها

4- مادة البحث

5- معالم طريقة العلاج الجمعى هذه

6- علاقة هذا العلاج بمختلف الأبعاد المتعلقة به، ويشمل ذلك: العلاقة بالعلاجات الأخرى والعلاقة بمدارس علم النفس المعاصرة، ثم العلاقة بطرق العلاج الجمعى الأخرى.

وكذلك العلاقة ببعض المدارس والمشاكل الفلسفية، وأخيراً العلاقة بقضايا عامة (مثل الدين والسياسة … الخ).

الجزء الأول

أولا – إختيار البحث

إن الطب النفسى الوصفى لم يزدهر إلا من خلال بعدين أساسيين:

أولا: تنمية الحدس الإكلينيكى

ثانيا: الوصف التسجيلى الأمين

… وبالتالى فينبغى أن يكون البحث العلمى فى فرعنا هذا ملتزماً أساساً بهذين البعدين، لا حكراً على تعداد الأرقام أو وفرة الأعداد (وإن كان لا غنى له عنهما).. وإنما يتحقق هذا الالتزام بالعمل على إعداد باحث أمين .. وتحديد فرض عامل .. وتسجيل ملاحظة يقظة . ثم بعد ذلك يأتى التفسير وإعادة التفسير وإعادة تفسير التفسير .. الخ، فمرحلة التفسير مفتوحة دائماً وإلى أبعد مدى.

وبديهى أن هذا الاتجاه الإكلينيكى الذى أحاول أن أؤكده بإلحاح، يكاد يصل إلى حد الإملال، ليس بديلا عن الأبحاث السلوكية المفصلة .. ولكنه الأصل دائما.

وهذا البحث هو من نوع تسجيل الملاحظات أساساً ثم تفسيرها، وهو يعلن ضمناً أن إلزام إعادة التجربة مرفوض فى مجالنا هذا لأنه مستحيل، وأن العينة الضابطة مرفوضة أيضاً لأنها خدعة، فالإنسان كائن متغير بالضرورة، متطور (أو متدهور بطبيعته)، هادفٌ واعٍ..، وقد أكدت هذه المقولات التى تعطى لعملنا وضعاً فريداً ضرورة البحث عن منهج للبحث العلمى خاص به، وقد تصاعد رفض فكرة “إعادة التجربة” و “العينة الضابطة” حتى أنى علمت مؤخراً أن آباء التداوى بالعقاقير النفسية فى معمل السيكوفارما كولوجى فى باريس (تحت رئاسة الأستاذ الدكتور “دينيكير” .. ومن قبله “ديلاى” مكتشفى عقار اللارجا كتيل) قد أعلنوا رفض إلحاح شركات الأدوية على الالتزام بهذه البدعة السخفية وهى بدعة “العينة الضابطة”..، فإذا كان ذلك فى مجال تقييم آثار العقاقير الفارماكولوجية، فهو أهم وأصدق فى مجال ملاحظة السلوك الإنسانى وتحديد قواه وتفسير جوانبه فى واقع الممارسة الإكلينيكية .. ومن ضمنها العلاج النفسى.

 ولكن هذا البحث أيضا يحاول – كما أعلن من ضمن أهدافه – تقييم طريقة ما فى العلاج النفسى، ويبدو أنه اثار بطريقة غير مباشرة أننا ونحن فى سبيلنا إلى البحث والتحرى والتقدير لابد وأن نعرف “ماذا” نقيس، قبل أن نتناقش فى “كم” نقيس، فكثير من الأبحاث والآراء والنقد والتقييم يدور حول كمّ شئ لم يتحدد تماما ولا نهائيا، فهى دراسات تجرى عادة  لتجميع تلك الأبحاث المقارنة لتفضيل نوع معين من العلاج على نوع آخر (!!) إن أى ممارس للعلاج النفسى بأقل درجة من الصدق أو العمق، يعرف ماذا تعنى كلمة “تقييم” لما يفعل، فإذا كان مصدر التقييم هو المريض: فدفاعاته قد تكون هى الحكم الأول والأخير، ففى الوقت الذى قد يعتبر المريض نفسه قد “شفى والحمد لله” قد يضع المعالج يده على قلبه إذ هو يعرف تماماً أن المريض قد يكون بهذا هارباً إلى “مظهر الصحة” خوفاً من مخاطر التغيير، فهذا المريض الذى سنأخذ إجابته لصالح العلاج قد نجد طبيبه –إن كان يقظا – فى انتظار النكسة الصريحة (بعودة الأعراض) أو النكسة الخفية (بانحدار مستوى تكيفه ونبضه العاطفى وإبداعه واختراقه للحياة).

أنتهى إلى القول أننا إذا قلنا أن هذا النوع من العلاج أفضل من ذاك النوع دون أن نحدد بالقوة المكبرة معنى “أفضل”، وما هو الهدف من المسيرة العلاجية (ومن الحياة) نكون قد وقعنا فى مزلق استعمال أساليب علمية (بل شبه علمية) لتبرير جمود حضارى دون وعى أو مسؤولية، ولعل كل من يقيم طريقة من هذا النوع يندرج إما تحت لافتة “المريدين” أو لافتة “الخائفين” (راجع الحماس للتحليل النفسى من المريدين، والهجوم عليه من الخائفين)، ومن هنا بدأ اعتراضى الأول على القائم بهذا البحث حين عرض علىّ فكرة البحث وخاصة أنه كان بشأن اختياره كجزء لازم للتقدم للحصول على درجة الماجستير … ومعنى ذلك أنه سيـُـقدم إلى جهة رسمية، للحصول على إجازة رسمية، فى وقت محدد…

وقد حاولت – لذلك – أن أثنى الباحث عن عزمه مراراً – رغم رغبتى الحقيقية فى أن يصر على المغامرة – إلا أنه وحده دون جميع المجتمعين أصر على خوض التجربة، وكانت ذريعته حينئذاك “.. لابد أن أكون واضحاً مع نفسى، ومحدداً فى اختيارى، ومنذ البداية ..، وما دمت قد اخترت هذا المجال مهنة وطريق معرفة .. فليكن بحثى فى مجالى دون تلكؤ…” ولا أنكر أنى قد تخوفـت من هذه اللهجة الواضحة المتحمسة (1) ولكن ما أثنانى عن الحليولة الفعلية دون قيامه بالبحث هو ما تذكرته من حماسى فى أول شبابى العلمى تحت إشراف أستاذى الدكتور عبد العزيز عسكر حين كان أول بحث قمت به هو تبريد المرضى حوالى عشر درجات مئوية بما يحمل ذلك من مخاطر عضوية جسيمة، وها هو تلميذ لى يكرر هذا الحماس بما يحمل من مخاطر المواجهة العنيفة .. ليس فى داخل المرضى فحسب، بل فى داخل المعالج والباحث نفسه، إذ أن الجرعة البصيرية اللازمة لإجراء مثل هذا البحث بأمانة كانت فى تقديرى أكبر من احتمال شاب فى مستهل حياته، لكل هذا تماديت فى محاولة إثنائه عن عزمه كما تمادى زملاؤه فى نفس الاتجاه.. إلا أنه مضى فى إصراره، وحين يصر شاب على أمر قابل للاختبار فإنى لابد أن أرضخ، ذلك لأن إصراره يزيد مسئوليته عن نتائج محاولته، ثم إنه يتيح لى – ولنا – من خلال ذلك فرصة التجربة رغم المحاذير المبدئية الجبانة .. إلا أن رضوخى كان مهزوزاً، فقد عدت فترددت مرة أخرى حين أمعنت النظر فى تفاصيل البحث الذى سيقوم به، حيث أنى “شخصياً” من ضمن مادة بحثه، فأنا المعالج الذى يجرى عليه البحث مثله مثل المرضى والمعالج المساعد، وفى نفس الوقت أنا المشرف على نفس البحث .. والأدهى من ذلك فأنا أستاذ الطالب، ليس فقط فى مجال البحث بل وفى غير ذلك من المجالات، فضلا عن بعد رابع أهم وأخطر وهو العلاقة الوجدانية التى تربطنى بالباحث وتربطه بى .. سلبا وإيجاباً، بوعى أو بغير ذلك، فكيف بالله أتصور لبحث أقوم فيه بهذه الأدوار الأربعة مجتمعة أن يقترب بدرجة كافية من الموضوعية..؟!

وقد عرضت مخاوفى – ثانية بعد بداية البحث – على الباحث وزملائه، وأصر الباحث أن يكمل الطريق الذى اختاره ليعلن للناس، وأهل العلم، ومحبى المعرفة ما يرى ويتصور أنه لازم أن يقال .. إذْ يوصّـل لهم رؤيته بكل مالها وما عليها، وتمادى فى ذلك متهماً إياى أنى لو استمررت على هذا التردد فقد تبدأ مثل هذه التجربة العلاجية معى، وتموت معى .. إما بموتى أو بيأسى وعجزى، وكنت أحس من خلال مناقشاتنا أنهم يرون – كما أرى – فيما يجرى شيئاً جديداً، وأنى أحمل أمانة ينبغى أن تؤدى إلى أهلها –الناس والعلم– باللغة المشتركة … وبإعلان الجارى بالقدر الموضوعى الممكن .. وليس بالاستسهال الهروبى الجزئى، ولا أنكر أن كل هذا قد أدخل الطمأنينة إلى قلبى .. ليس بالنسبة لهذه التجربة فحسب، بل بالنسبة لبقية أفكارى التى اختلطت بلحمى ودمى ولم يُؤذن لها فى الخروج إلى الكافة بعد …، وإنما أختصُّ بها من حولى فى مجالات الدراسات العليا والبحث فحسب، وتذكرت أمثلة فى التاريخ – تاريخ علمنا – مثل هارى ستاك سوليفان، وأدولف ماير … إذ  لم يكتـُبُ أىٌّ منهما أفكاره مباشرة فى الأغلب، وإنما نقل تلاميذ كل منهما أغلب نظرياته وفكره.. وقلت لنفسى فى خبث من يدرى؟ لعل فكرك الذى هو زاوية رؤيتك للحقيقة لن يموت بموتك .. أو حتى عجزك .. أو يأسك.

 هكذا، أصر الباحث على القيام بالبحث الذى اختاره، وقاومته بالقدر الذى استطعت به أن ألجم موافقتى الداخلية، وانتصر هو و”داخلى” على مخاوفى وحساباتى .. وبدأ البحث .. لأعتبره – كما سأخلـُص فى النهاية – أنه ليس تقييما موضوعياً لطريقة علاج (الأمر الذى أوضحت استحالته لأى طريقة .. كما سأزيد ذلك تفصيلاً) وإنما هو وصف لما يجرى فى محاولة علاجية جديدة .. ليشمل هذا الوصف ما يجرى خارجنا، وما يجرى داخل وعى الباحثين فى نفس الوقت، بدرجة مختلطة إذ لا يمكن فصلهما عن بعضهما .. (وسوف أرجع إلى هذه النقطة بالتفصيل حين أتناول طريقة البحث).

وقد تصورت – وأمِلت – أن يكون لهذا البحث بالإضافة إلى ما أعلن من أهداف – فوائد علمية منها على حد تقديرى:

1- أننا قد نتشجع ونتغلب على مرحلة أخرى من الشعور بالنقص لنثبت لأنفسنا أولا، وللعالم من حولنا، ثم ربما للعالم أجمع،  أننا لسنا اقل من غيرنا، وأن الفكر المصرى والطب النفسى المصرى لهما أصالتهما ومكانهما فى مسيرة العلم والمعرفة، ثم ها نحن كمصريين ندلى بما عندنا فى العلاج النفسى فى أحدث صوره المعاصره – العلاج الجمعى – دون تردد.

2- أن يثق شباب الباحثين عندنا فى أن البحث العلمى بمعناه الأخلاقى والإبداعى معاً، ممكن ومتاح، وأن حكمة البحث العلمى ليست حكراً على الفكر المغترب، أو على الدفاع ضد إثارة الشكوك حول الباحث كأداة بحث، وأن نضرب لهم مثلاً حياً يشير إلى أن الأداة البشرية – على قصورها – قادرة على البحث والملاحظة والاستدلال وعلى الإسهام فى توضيح جانب من جوانب الحقيقة.

3- أن نحدد – بحثاً وتدويناً – بعض معالم ذواتنا بعيوبها ومزاياها، بحيث نستطيع أن نتبادلها – محددة – مع الآخرين، فى كل مجالات العلم فى الداخل والخارج، فيتعرفوا علينا من خلالها – لا من خلال تصوراتهم -، وينقدونا من واقعها فنتحول ونتطور ونسابق من خلال الاحتكاك والمناقشة، وبالتالى نكون قد تخطينا مرحلة النقل والتقليد إلى مرحلة الاحتكاك والحوار.

ثانياً – تاريخ التجربة

أما بالنسبة لموضوع البحث وهو “العلاج الجمعى: دراسة اتجاه مصرى” فإن له قصة طويلة معى لا أعتقد أن هذا مجال ذكرها تفصيلاً – وقد أرجع إليها حين أكتب بنفسى – إذا قدر لى – عن العلاج الجمعى من واقع خبرتى (2)  ووجهة نظرى، ولكنى هنا لابد أن أسرد تاريخاً قصيراً ألمَح إليه الباحث فى بضع سطور حين عرج على العلاج الجمعى فى مصر.

ولعل فى هذا التاريخ الموجز ما يفسر أن هذا الاتجاه “مصرى”. كما أنه قد يوضح للقارئ كيفية ارتباط علمنا هذا بوجه خاص بذواتنا وتجربتنا الشخصية.

ويمكن أن أرجع هذه الطريقة العلاجية قيد البحث إلى ثلاث مصادر أساسية:

1- خبرة “شخصية” موازية

2- خبرة مهنية طويلة فى العلاج النفسى

3- بعض القراءات فى الموضوع

أولا: الخبرة الشخصية:

بدأت التجربة بداية شخصية تماماً حين أردت مع صديق عزيز علىّ جداً أن نرتقى بلقاءاتنا الخاصة من مرحلة “الاتئناس وقتل الوقت” (أو ما يسميه إريك بيرن “لعبة الثرثرة”) إلى مرحلة المساعدة الجادة لبعضنا البعض..، وكانت لدينا الشجاعة حينذاك أن نلتقط الخيط من بعض معاناتنا .. ومشاركة زوجاتنا..، وبديهى أنه فى مثل هذا الموقف تبدا المجموعة المسماة “المجموعة بلا قائد” Leaderless Group لحرج اختيار قائد من بيننا .. حتى أنى أذكر أننا سمينا القائد – الغائب الحاضر – حينذاك اسماً رمزياً، إشارة إلى انه ضمير مستتر تقديره “س”..، وكان ذلك فى عام 1971، وتصادف أن ذلك كل قد حدث عقب خبرة الحدس العلمى الذى أشرت إليه فى كتابى “حيرة طبيب نفسى”، والذى فزعت فيه إلى صديق وزميل (ولم أجده، ثم إلى زوجتى كما ورد فى كتابى حيرة طبيب نفسى، بما صاحب ذلك من  لهفة ملحة إلى أن أجد من يقبلنى وبصبر على الفكرة الجديدة!!

التعليق: (فبراير 2013)

توقفت فجأة ، وحاولت أن أتذكر تلك الفكرة الباكرة وكيف ولدت، وهل يا ترى لها علاقة بالعلاج الجمعى، أو على الأقل بهذه الفقرة التى أسميتها “الخبرة الشخصية”، فلم أستطع أن أحدد أية فكرة كانت بالضبط، فقلت أرجع إلى كتابى التى ذكرت فيه “حيرة طبيب نفسى”، فوجدتها تشغل الفصل الأخير على قصره، وتصورت أن من حق القارئ وحقى أن أعرض هذه العينة الباكرة التى يرجع تاريخها إلى أكثر من أربعين سنة، مع أن علاقتها بالعلاج الجمعى تبدو ضعيفة، لكننى حين أعدت قراءتها ، وراجعت ما وصلنى من هذا العلاج كما ذكرت الأسبوع الماضى، وجدت ارتباطا وثيقا، خاصة وأنها ظهرت سنة 1971، وهى نفس السنة التى بدأت أمارس فيها العلاج الجمعى بانتظام أسبوعى حتى هذه اللحظة،

قررت الآن برغم مقاومة شديدة خوفا من الاستطرادات التى تنحرف بالمسار كما حدث فى ملف الإدراك أن اثبتها كما جاءت فى هذا الكتاب بالنص دون تغيير حرف واحد، خاصة وأنها تحوى جانبا مهما من علاقتى بالزميل الصديق الكريم أ.د. محمد شعلان، وهو أحد أهم افراد المجموعة التى أشرت إليها حالا، وسأرجع إليها الأسبوع القادم غالبا

 ثم قد  أعتذر على حشر هذا الاستطراد  إن لزم الاعتذار.

وها هى ذى :

…..

فى ‏يوم‏ ‏الإثنين‏ ‏الثانى ‏عشر‏ ‏من‏ ‏أبريل‏ ‏الماضى (1971)، ‏وكنت‏ ‏جالسا‏ ‏مع‏ ‏مريض‏ ‏صديق‏ ‏بعيادتى ‏الخاصة‏، ‏أستمع‏ ‏إليه‏ ‏ولا‏ ‏أستمع‏ ‏إليه‏، ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأمور‏ ‏المتناقضة‏ ‏جميعا‏ ‏قد‏ ‏ارتبطت‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏فجأة‏، ‏وأن‏ ‏كل‏ ‏الأضداد‏ (‏أو‏ ‏معظمها‏) ‏استدارت‏ ‏من‏ ‏موقف‏ ‏المواجهة‏ ‏إلى ‏موقف‏ ‏التماسك‏ ‏والتآلف‏، ‏وارتبط‏ ‏الانسان‏ ‏الفرد‏ ‏بالإنسان‏ ‏النوع‏، ‏واستقر‏ ‏الأنا‏ ‏الهارب‏ ‏والأنا‏ ‏الناكص‏ ‏والأنا‏ ‏المنقسم‏ (‏التعابير‏ ‏من‏ ‏الفكر‏ ‏التحليلى ‏الجديد: العلاقة بالموضوع‏) ‏فى ‏قاع‏ ‏خلايا‏ ‏المخ‏، ‏وصعد‏ ‏فرويد‏ ‏إلى ‏أعلى ‏طبقات‏ ‏النفس‏ ‏وأكثزها‏ ‏سطحية‏، ‏وكأن‏ ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏أشرق‏ ‏فجأة‏… ‏وتفاهمت‏ ‏الكيمياء‏ ‏مع‏ ‏الكهرباء‏ ‏مع‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏التطور‏.‏

وتعجبت‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏هذا‏.. ‏فرحت‏ ‏به‏، ‏وخفت‏ ‏منه‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، واتصلت‏ ‏تليفونيا‏ ‏بزميل‏ ‏صديق‏، ‏فلم‏ ‏أجده‏..‏، وانطلقت‏ ‏أشرح‏ ‏أفكارى ‏للصديق‏ ‏المريض‏ ‏أمامي‏- ‏بلغة‏ ‏قريبة‏ ‏منه‏ ‏ومن‏ ‏مشكلته‏- ‏وكان‏ ‏للجديد‏ ‏وقع‏ ‏عنيف‏ ‏علىّ… ‏ولكن ‏الصديق‏ ‏المريض‏ قال لى:  “‏ما‏ ‏أنا‏ ‏عارف‏”، ‏وعجبت‏، ‏وتذكرت‏ ‏حقيقة‏ ‏قديمة‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏الأصدقاء‏ ‏المرضى ‏يعرفون‏ ‏النفس‏ ‏أدق‏ ‏وأصدق‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏النظريات‏، ‏وذهبت‏ ‏آخر‏ ‏النهار‏ ‏لزميلى ‏الصديق‏ ‏ومعى ‏زوجتى… ‏ولم‏ ‏أجده‏، ‏ولم‏ ‏أستطع‏ ‏الصمت‏، ‏وأخرجت‏ ‏ورقا‏ ‏من‏ ‏مكتبه‏ ‏وانطلقت‏ ‏طوال‏ ‏ساعات‏ ‏ثلاث‏ ‏أشرح‏ ‏لزوجتى ‏الفكرة‏ ‏وأرسمها‏ ‏على ‏الورق‏ ‏وأربط‏ ‏الأفكار‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏.. ‏ولا‏ ‏أعرف‏ ‏إن‏ ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏أدركت‏ ‏التفاصيل‏ ‏أم‏ ‏لا‏.. ‏ولكنها‏ ‏كانت‏ ‏تتابع‏ ‏أفكارى ‏الأغلب‏ ‏بقدر‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏يشجعنى ‏أن‏ ‏أقول‏ ‏مالا‏ ‏يعنيها‏ ‏دون‏ ‏تحرج‏..‏، وحين‏ ‏حضر‏ ‏زميلى ‏وزوجه‏ ‏تواعدنا‏ ‏أن‏ ‏أشرح‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏..، وخلال‏ ‏أيام‏ ‏كنت‏ ‏أعيد‏ ‏القصة‏ ‏عليهما‏ ‏مع‏ ‏زوجتى ‏من‏ ‏أولها‏ ‏لآخرها‏… ‏وسألتهم‏ ‏هل‏ ‏هناك‏ ‏جديد؟‏ ‏فقالوا‏: ‏”يبدو‏ ‏ذلك‏…‏”

وفى ‏ليلة‏ ‏تالية‏ ‏حلمت‏ ‏أنى ‏أكتب‏ ‏خطابا‏ ‏لصديقى ‏بيير‏ ‏فى ‏باريس‏ ‏الذى ‏قال‏ ‏تعليقه‏ ‏عن‏ ‏الشئ‏ ‏ال‏ “‏ما‏” ‏الذى ‏ينبغى ‏أن‏ ‏أهب‏ ‏حياتى ‏له‏، ‏واستيقظت‏ ‏فى ‏جوف‏ ‏الليل‏ ‏وأخذت‏ ‏أكتب‏ ‏له‏ ‏وأكتب‏ ‏حتى ‏أكملت‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏عشر‏ ‏صفحات‏، ‏وأرسلتها‏ ‏فورا‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أحتفظ‏ ‏بنسخة‏، ‏ولم‏ ‏يرد‏ (‏ولا‏ ‏أدرى ‏حتى ‏الآن‏ ‏إن‏ ‏كان‏ ‏خطابى ‏قد‏ ‏وصل‏، ‏وخجل‏ ‏أن‏ ‏يسفه‏ ‏آرائى ‏فى ‏الرد‏، ‏أم‏ ‏أن‏ ‏رجال‏ ‏البريد‏ ‏أحسوا‏ ‏بثقل‏ ‏وزنه‏ ‏فتخففوا‏ ‏من‏ ‏جهد‏ ‏توصيله‏).‏

واستمررت‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏ ‏أمارس‏ ‏المهنة‏، ‏ولكنى ‏وجدت‏ ‏أن‏ ‏الأسماء‏ ‏القديمة‏ ‏تعوق‏ ‏فهمى ‏أكثر‏ ‏وأكثر‏، ‏وأن‏ ‏الفكرة‏ ‏الجديدة‏ ‏تلح‏ ‏على ‏فى ‏أن‏ ‏أبحث‏ ‏عن‏ ‏أسماء‏ ‏جديدة‏، ‏وفعلت‏…‏، ووجدت‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏أكثر‏ ‏تقبلا‏ ‏وفهما‏ ‏من‏ ‏التعقيدات‏ ‏الشديدة‏ ‏والألغاز‏ ‏التى ‏كنا‏ ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نفهم‏ ‏بها‏ ‏الانسان‏ ‏المريض‏، ووجدت‏ ‏أنه‏ ‏حتى ‏العلاج‏ ‏أخذ‏ ‏طابعا‏ ‏آخر‏ ‏ومراحل‏ ‏أخرى، ‏أصبح‏ ‏أوضح‏ ‏وأبسط‏ ‏وأسرع‏ ‏وأكثر‏ ‏ترابطا‏.‏

وطبعا‏ ‏شككت‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏ولم‏ ‏يشك‏ ‏فيه‏ ‏مرضاى ‏ولا زملائى (‏الصغارمنهم‏ ‏طبعا‏) ‏وقلت‏ ‏أبدا‏: ‏هذه‏ ‏صحوة‏ ‏من‏ ‏صحوات‏ ‏الحيرة‏ ‏أردت‏ ‏بها‏ ‏أن‏ ‏أهدئ‏ ‏من‏ ‏حيرتى ‏فترة‏ ‏ما‏، ‏وأن‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏موجودة‏ ‏من‏ ‏قديم‏ ‏وقد‏ ‏انجلت‏ ‏فجأة‏… ‏هذه‏ ‏هى ‏كل‏ ‏الحكاية‏… ‏لابد‏ ‏أنى ‏قرأتها‏ ‏يوما‏.. ‏أو‏ ‏أنى ‏سأقرؤها‏ ‏يوما‏…‏

وذهبت‏ ‏أبحث‏ ‏عنها‏ ‏فى ‏كل‏ ‏ما تصل‏ ‏إليه‏ ‏عينى ‏مما‏ ‏قرأت‏، ‏وذهبت‏ ‏أناقشها‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏أثق‏ ‏فى ‏سعة‏ ‏إطلاعهم‏، ‏ووجدت‏ ‏جزئياتها‏ ‏موجودة‏ ‏فعلا‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏موجودة‏ ‏إطلاقا‏ ‏ككل‏ ‏متكامل‏…، ‏قال‏ ‏بها‏ “‏فرويد‏” ‏عندما‏ ‏تحدث‏ ‏عن‏ ‏غريزة‏ ‏الموت‏ ‏والحياة‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏يونج‏ ‏وهو‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏اللاشعور‏ ‏الجمعى، ‏وفى ‏حديثه‏ ‏عن‏ ‏تاريخ‏ ‏الانسان‏ ‏النوع‏ ‏وضرورة‏ ‏تحقيق‏ ‏ذاته‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ “‏إريك‏ ‏اريكسون‏” ‏وهو‏ ‏يضع‏ ‏الانسان‏ ‏فى ‏تطوره‏ ‏الاجتماعى ‏وكأنه‏ ‏عدة‏ ‏أناس‏ ‏بعضهم‏ ‏فوق‏ ‏بعض‏، ‏وقال‏ ‏بها‏ ‏ساندور ‏ ‏رادو‏، ‏وإريك‏ ‏فروم‏، ‏وكارن‏ ‏هورنى ‏وفيربرن‏ ‏وجنترب‏ ‏وهنرى ‏إى ‏وزرادشت‏ ‏ونيتشه‏ ‏وبرجسون‏ ‏وبرناردشو‏ ‏وكل‏ ‏الناس.

ولم‏ ‏يقلها‏ ‏أحد‏.‏

وكنت‏ ‏حين‏ ‏أقرأ‏ ‏بالانجليزية‏ ‏والفرنسية‏ ‏ولا‏ ‏أجد‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏، ‏أقول‏ ‏لنفسى ‏لابد‏ ‏أنها‏ ‏كتبت‏ ‏بالألمانى. ‏فهناك‏ ‏الأصالة‏ ‏والتطور‏ ‏وأنا‏ ‏لاأعرف‏ ‏الألمانية‏، ‏إذا‏ ‏فلا‏ ‏جديد‏. ‏ولكنه‏ ‏بالرغم‏ ‏منى، ‏بدا‏ ‏لى ‏كل‏ ‏شئ‏ ‏جديدا، وبعد‏ ‏شهور‏ ‏طويلة‏ ‏حين‏ ‏استقرت‏ ‏الأشياء‏ ‏وأخذت‏ ‏الأسماء‏ ‏الجديدة‏ ‏مواضعها‏ ‏التقريبية‏، ‏كتبت‏ ‏إلى ‏زميلى ‏وصديقى ‏الدكتور‏ ‏محمد‏ ‏شعلان‏ ‏فى الولايات المتحدة الأمريكية خطابا‏ ‏سيئا‏ ‏للغاية‏  ‏حاولت‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏له‏ ‏الفكرة‏ ‏ببعض‏ ‏التفاصيل‏، ‏وبعد‏ ‏أن‏ ‏شرحت‏ ‏فيه‏ ‏وجهة‏ ‏نظرى ‏فى ‏أن‏ ‏انتشار‏ ‏فرويد‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏لأصالته‏، ‏وإنما‏ ‏لحاجة‏ ‏الناس‏ ‏إلى ‏تبرير‏ ‏توقفهم‏ ‏التطوري‏- ‏أو‏ ‏تدهورهم‏- ‏خلال‏ ‏القرن‏ ‏التاسع‏ ‏عشر‏، (3)قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏يامحمد‏: ‏إما‏ ‏أن‏ ‏نساهم‏ ‏إراديا‏ ‏فى ‏التطور‏ ‏أو‏ ‏نموت‏، ‏والمسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حوار‏ ‏متصل‏، ‏ولكنها‏ ‏لاتحتاج‏- ‏فى ‏نظري‏- ‏إلى ‏تحليل‏ ‏منظم‏، ‏المسألة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏حب‏ ‏جارف‏، ‏وصدق‏، ‏وتقشف‏ ‏نفسى، ‏وتصوف‏، ‏وإيمان‏ ‏بالأصل‏، ‏وبالاستمرار‏، ‏ويقين‏ ‏بالغد‏، ‏وبكل‏ ‏ماهو‏ ‏أصيل‏… ‏وأين‏ ‏هذا‏ ‏كله؟ هو‏ ‏موجود‏ ‏عبر‏ ‏التاريخ‏، ‏وهو‏ ‏الذى ‏يجعلنا‏ ‏نفخر‏ ‏بأن‏ ‏ننتمى ‏إلى ‏هذا‏ ‏الجنس‏ ‏من‏ ‏المخلوقات‏…. ‏ليس‏ ‏هناك‏ ‏جديد‏ ‏بمعنى ‏الجديد‏، ‏وإنما‏ ‏الجديد‏ ‏هو‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏القديم‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏هناك‏ ‏حوالى ‏ألف‏ ‏أو‏ ‏قل‏ ‏مائة‏- ‏فى ‏مجال‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏فقط‏- ‏يفكرون‏ ‏فيما‏ ‏أفكر‏ ‏فيه‏ ‏الآن‏، ‏أنا‏ ‏لاأشك‏ ‏أنى ‏إن‏ ‏لم‏ ‏أكتب‏ ‏مايدور‏ ‏فى ‏وجداني‏- ‏الشئ‏ ‏الذى ‏يلح‏ ‏على ‏فيه‏ ‏البعض‏ ‏الآن‏- ‏لاأشك‏ ‏أن‏ ‏غيرى ‏سيكتبه‏، ‏وربما‏ ‏أفضل‏، ‏وحين‏ ‏أرسلت‏ ‏إليك‏ ‏مقالتى ‏عن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏قدمت‏ ‏لها‏ ‏أقترح‏ ‏أن‏ ‏تعتبرها‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏الضلال‏ ‏المنظم‏ Systematized delusion، ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏الضلال‏ ‏ماهو‏ ‏إلا‏ ‏دفاع‏ ‏ضد‏ ‏الجنون‏ ‏المطبق‏، ‏فقد‏ ‏أطبق‏، ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏أردت‏ ‏أن‏ ‏تعتبر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏الجنون‏ ‏فى ‏خدمة‏ ‏الذات‏ ‏والتطور‏.. ‏إذا‏ ‏فهو‏ ‏الخلق‏..‏

هل‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏أن‏ ‏أحدثك‏ ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏كان؟‏. ‏فليكن‏..‏

الآن‏: ‏ماهو‏ ‏موقفنا‏ ‏من‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏وتقسيماته‏ ‏وعلاجه؟

‏راجع‏ ‏التقسيم‏ ‏الدولى ‏والأمريكانى ‏وغيرهما‏ ‏وتعجب‏ ‏للمرحلة‏ ‏الوضيعة‏ ‏التى ‏تجمدنا‏ ‏عندها‏…‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏محاولة‏ ‏فهم‏ ‏المخ‏ ‏بالتفاعلات‏ ‏الكيميائية‏ ‏وفقط‏، ‏وستجد‏ ‏تقلصات‏ ‏العلماء‏ ‏فى ‏المعامل‏ ‏تشبه‏ ‏تشنجات‏ ‏الفئران‏، ‏إذ‏ ‏يحاولون‏ ‏تعميم‏ ‏ما‏ ‏على ‏الفأر‏ ‏على ‏الإنسان‏…‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏الموقف‏ ‏الأبله‏ ‏فى ‏تفسير‏ ‏الصدمات‏ ‏الكهربائية‏…. ‏ذات‏ ‏المفعول‏ ‏الأكيد‏.‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏النظريات‏ ‏السيكوباثولوجية‏ ‏وعدم‏ ‏ارتباطها‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏وبالوضع‏ ‏العضوى ‏للمخ‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى، ثم‏ ‏راجع‏ ‏أقصى ‏اليمين‏ ‏من‏ ‏المدعين‏ – ‏مثلا‏- ‏أن‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية‏ ‏ما هى ‏إلا‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏الصرع‏…. ‏وهم‏ ‏لايفهمون‏ ‏الصرع‏ ‏ذاته‏.‏

ثم‏ ‏راجع‏ ‏الصراع‏ ‏الصورى ‏بين‏ ‏التحليليين‏ ‏والسلوكين‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏علاقة‏ ‏الأمراض‏ ‏ببعضها‏ ‏البعض‏: ‏الصرع‏ ‏بالشيزوفرينيا‏ ‏والأخير‏ ‏بجنون‏ ‏والهوس‏ ‏والاكتئاب‏، ثم‏ ‏راجع‏ ‏التاريخ‏…. ‏أعنى ‏تاريخ‏ ‏الحياة‏ ‏وتناسبها‏: ‏لا‏ ‏مع‏ ‏المرحلة‏ ‏الفمية‏ ‏والمرحلة‏ ‏الشرجية‏…. ‏ولكن‏ ‏مع‏ ‏الموقف‏ ‏البارنوى ‏والموقف‏ ‏الاكتئابى… “‏الخ‏”‏

ومضيت‏ ‏فى ‏خطابى ‏ألح‏ ‏فى ‏حاجتنا‏ ‏إلى ‏جديد‏ ‏يربط‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏ببعضه‏ ‏البعض‏ ‏وأن‏ ‏الفارماكولوجيا‏ (‏علم‏ ‏العقاقير‏ ‏الطبية‏) ‏النفسية‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وتداخل‏ ‏الأمراض‏ ‏الذهانية‏ ‏فى ‏بعضها‏ ‏البعض‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعمق‏ ‏الفهم‏ ‏ويحل‏ ‏الإشكال‏… ، ثم‏ ‏عرضت‏ ‏فكرتى ‏عن‏ ‏أن‏ ‏مخ‏ ‏الإنسان‏ ‏ليس‏ ‏مخا‏ ‏واحدا‏ ‏بل‏ ‏عدة‏ ‏أمخاخ‏، ‏وأنى ‏أعنى ‏بالمخ‏ ‏”تركيبا‏ ‏متكاملا‏” ‏وليس‏ ‏منطقة‏ ‏بذاتها‏، ‏وأ‏ن‏ ‏كل‏ ‏تركيب‏ ‏متكامل‏ ‏له‏ ‏نقطة‏ ‏انبعاث‏ ‏تنظم‏ ‏عمله‏، ‏وأنه‏ ‏فى ‏الأحوال‏ ‏العادية‏ ‏لا يعمل‏ ‏إلا‏ ‏مخ‏ ‏واحد‏ ‏وتكون‏ ‏بقية‏ ‏الامخاخ‏ ‏كامنة‏ ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏المخ‏ ‏الواحد‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يسيطر‏ ‏على ‏كل‏ ‏أجزاء‏ ‏الجهاز‏ ‏العصبى، ‏وفى ‏الأحوال‏ ‏المرضية‏ (‏أمراض‏ ‏الكينونة‏) ‏يعمل‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مخ‏، ‏وأحيانا‏ ‏يعمل‏ ‏المخ‏ ‏القديم‏ ‏متفوقا‏، ‏وينتصر‏ ‏على ‏المخ الحديث فى الصراع بينهما، وأن العقاقير تعمل بشكل تطورى مرتب على بعض الأمخاخ دون الأخرى، وبذلك يمكن تهدئة المخ‏ ‏القديم‏ ‏اختياريا‏ ‏دون‏ ‏المساس‏ ‏بدرجة‏ ‏كبيرة‏ ‏بالمخ‏ ‏الحديث‏، ‏وأن‏ ‏الصدمة‏ ‏الكهربائية‏ ‏إنما‏ ‏تمسح‏ ‏النشاط‏ ‏الكهربائى ‏لكل‏ ‏الأمخاخ‏ ‏ثم‏ ‏تعطى ‏الفرصة‏ ‏للمخ‏ ‏الأقوى ‏أن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ليوجه‏ ‏الفرقة‏ ‏كلها‏، ‏وأن‏ ‏هذا‏ ‏يفسر‏ ‏اختلاف‏ ‏الاستجابة‏ ‏للعلاج‏ ‏الكهربائى ‏بعد‏ ‏تحضير‏ ‏كيميائى ‏وتهيئة‏ ‏نفسية‏ ‏مناسبة‏، ‏وأن‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏وهو‏ ‏الحب‏ ‏الإنسانى ‏يجذب‏ ‏طاقة‏ ‏المريض‏ ‏إلى ‏الخارج‏ ‏إلى ‏الناس‏ ‏ويغرى ‏المخ‏ ‏الحديث‏ ‏بأن‏ ‏يلتقط‏ ‏عصا‏ ‏المايسترو‏ ‏ولايخاف‏ ‏من‏ ‏الوحدة‏ ‏أو‏ ‏القهر‏، ‏وأنه‏ ‏بذلك‏ ‏يتوافق‏ ‏العلاج‏ ‏الكيميائى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏النفسى ‏مع‏ ‏العلاج‏ ‏الكهربائى، ‏وقسمت‏ ‏له‏ ‏الأمخاخ‏ ‏وسميتها‏، ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏وأنا‏ ‏أعرض‏ ‏كل‏ ‏هذه‏ ‏الأفكار‏ ‏فى ‏خطاب‏ ‏من‏ ‏بضعة‏ ‏صفحات‏ ‏أن‏ ‏أزيد‏ ‏الأمر‏ ‏تعقيدا‏ ‏وليس‏ ‏توضيحا‏ ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يجد‏ ‏القارئ‏ ‏نفسه‏ ‏فى ‏متاهة‏ ‏وهو‏ ‏يتابع‏ ‏الفقرة‏ ‏السابقة‏ ‏مما‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏اعتذار‏ ‏جديد‏- ‏وكان‏ ‏بديهيا‏ ‏ألا‏ ‏أتوقع‏ ‏ردا‏ ‏إيجابيا‏… ‏وهذا‏ ‏ماحدث‏- ‏ولكنى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏ ‏ختمت‏ ‏الخطاب‏ ‏قائلا‏:‏

‏”‏والآن‏: ‏هل‏ ‏نعلن‏ ‏الثورة؟‏ ‏هل‏ ‏نرفض‏ ‏الأسماء؟‏ ‏هل‏ ‏آن‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نصمم‏ ‏على ‏التطور‏ ‏بإرادتنا‏ ‏وعلى ‏رفض‏ ‏المقدسات‏ ‏الخادعة‏، ‏هل‏ ‏نأخذ‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏مخ‏ ‏أصالته‏ ‏وجوهره‏ ‏ونحاول‏ ‏أن‏ ‏نوافق‏ ‏بينها‏ ‏لنحوِّل‏ ‏الناس‏ ‏المنشقين‏ ‏على ‏أنفسهم‏ ‏إلى ‏إنسان‏ ‏واحد‏ ‏متوافق‏ ‏مع‏ ‏تاريخه‏ ‏المجيد‏ ‏فى ‏الصراع‏ ‏للبقاء‏ ‏فالتطور‏.‏

هل‏ ‏تحضر؟‏ ‏هل‏ ‏تكتب؟‏ ‏هل‏ ‏نتفاهم؟ هل‏ ‏نستطيع‏ ‏الصمود‏ ‏حتى ‏نموت‏ ‏لا‏ ‏تسرقنا‏ ‏أيامنا‏ ‏ولا‏ ‏أطماعنا‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يفتت‏ ‏عقولنا‏ ‏الكولسترول‏ ‏المترسب‏ ‏داخل‏ ‏شراييننا؟

هل‏ ‏نستمر؟ هل‏ ‏نيأس‏ ‏مثل‏ ‏الأنواع‏ ‏المنقرضة‏ ‏من‏ ‏الأحياء؟ هل‏ ‏أنت‏ ‏معى؟

ولك‏ ‏منى ‏الحب‏ ‏والسلام‏…‏ يحيى

وكما‏ ‏قلت‏، ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏الرد‏ ‏إيجابيا‏ ‏حيث‏ ‏أرسل‏ ‏لى ‏خطابا‏ ‏قال‏ ‏فيه‏:‏

‏”‏هل‏ ‏تغضب‏ ‏من‏ ‏حرارة‏ ‏الشمس‏ ‏إذا‏ ‏حرقت‏ ‏جلدك‏…. ‏أو‏ ‏من‏ ‏بلاهة‏ ‏الحمار‏ ‏إذا‏ ‏لم‏ ‏يفهم‏ ‏قولك؟‏ ‏فلا‏ ‏تغضب‏ ‏منى ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏استجابتى ‏لكتابك‏ ‏الأخير‏ ‏قد‏ ‏تجمدت‏ ‏طيلة‏ ‏هذا‏ ‏الوقت‏. ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏كتابك‏ (‏أو‏ ‏خطابك‏) ‏محاولة‏ ‏لترجمة‏ ‏إحساس‏ ‏أثق‏ ‏فى ‏صدقه‏…. ‏أما‏ ‏ترجمة‏ ‏الإحساس‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏العقل‏ ‏والتصنيف‏ ‏والتنظيم‏ ‏فقد‏ ‏نزلت‏ ‏على ‏عينى ‏غشاوة‏ ‏فلم‏ ‏أستطع‏ ‏أن‏ ‏أفهم‏ ‏ماذا‏ ‏تريد‏ ‏أن‏ ‏تقول‏ … ‏ربما‏ ‏لمجرد‏ ‏أننى ‏فى ‏حالة‏ ‏ثورة‏ ‏على ‏العقل‏ ‏والمنطق‏….”‏

ثم‏ ‏قال‏ “…. ‏ولأنى ‏أعتقد‏ ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏المحاولات‏ ‏ضرورية‏ ‏من‏ ‏أجل‏ ‏نقل‏ ‏الخبرة‏ ‏من‏ ‏مجال‏ ‏الإحساس‏ ‏المبهم‏ ‏الغامض‏ ‏إلى ‏مجال‏ ‏المفاهيم‏ ‏الموضوعية‏، ‏ولتمكين‏  ‏نقل‏ ‏العلم‏ ‏من‏ ‏جيل‏ ‏إلى ‏جيل‏ ‏ومن‏ ‏مكان‏ ‏إلى ‏مكان‏، ‏ومحاولتك‏ ‏هى ‏إحدى ‏هذه‏ ‏المحاولات‏، ‏ولكن‏ ‏مثلها‏ ‏مثل‏ ‏غيرها‏ ‏من‏ ‏المحاولات‏ ‏تجد‏ ‏نفسك‏ ‏تقول‏ ‏ماقاله‏ ‏الغير‏ ‏ولكن‏ ‏تصر‏ ‏على ‏تغيير‏ ‏لفظ‏ ‏أو‏ ‏مفهوم‏، ‏بينما‏ ‏الأساس‏ ‏واحد‏ ‏وينشأ‏ ‏حوار‏ ‏ومناقشة‏ ‏وخلاف‏ ‏وبيزنطية‏.‏

ثم‏ ‏يقول‏ “‏أريد‏ ‏أن‏ ‏أصل‏ ‏إلى ‏أنى ‏شبعت‏ ‏نظريات‏ ‏وتنظيرا‏ ‏وتنظيما‏ ‏وتصنيفا‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏لى ‏أن‏ ‏أتعلم‏ ‏فبالخبرة‏” “‏إن‏ ‏مجال‏ ‏العلم‏ ‏ملئ‏ ‏بالمقالات‏، ‏إنها‏ ‏أصبحت‏ ‏تمثل‏ ‏أزمة‏ ‏مثل‏ ‏أزمة‏ ‏المواصلات‏ ‏وأزمة‏ ‏تلوث‏ ‏الهواء‏ ‏وأزمة‏ ‏التخلص‏ ‏من‏ ‏الفضلات‏، ‏والمقالات‏ ‏العلمية‏ ‏أصبحت‏ ‏قيمتها‏ ‏مقاربة‏ ‏لقيمة‏ ‏الورق‏ ‏والحبر‏ ‏الذى ‏ينفق‏ ‏عليها‏… ‏أنت‏ ‏تتفق‏ ‏معى ‏فى ‏هذا‏، ‏وسوف‏ ‏تقول‏ ‏أن‏ ‏ماحاولتَ‏ ‏أن‏ ‏تعبر‏ ‏عنه‏ ‏ليس‏ ‏مقالة‏ ‏أخرى ‏وليس‏ ‏نظرية‏، ‏ولكنه‏ ‏توضيح‏ ‏وتنسيق‏ ‏لما‏ ‏هو‏ ‏معلوم‏، ‏وربط‏ ‏أجزاء‏ ‏العلم‏ ‏المتفرقة‏ ‏وتوحيدها‏ ‏حتى ‏فى ‏اللفظ‏ ‏وتصر‏ ‏على ‏استخدام‏ ‏كلمة‏ “‏مخ‏” ‏وكلما‏ ‏تستخدمها‏ ‏يثار‏ ‏لعابى ‏لأنه‏ ‏كان‏ ‏فيما‏ ‏مضى ‏سندوتشى ‏المفضل‏ ‏عند‏ “‏على ‏كيفك‏” ‏فى ‏الإسكندرية‏ “‏ولاباس‏” ‏فى ‏القاهرة‏.‏

ثم‏ ‏يقول‏ “‏أعود‏ ‏وأقول‏ ‏معك‏ ‏لابد‏ ‏من‏ ‏تنظير‏ ‏وتنسيق‏ ‏وتوفيق‏… ‏ولكن‏ ‏أليس‏ ‏العلم‏ ‏مليئا‏ ‏بالنظريات‏… ‏وكلها‏ ‏نظريات‏ ‏لاتفعل‏ ‏شيئا‏ ‏ولا‏ ‏تنجد‏ ‏الطبيب‏ ‏فى ‏لقائه‏ ‏مع‏ ‏مريضه‏ ‏فلماذا‏ ‏نضيف‏ ‏واحدة‏ ‏أخرى؟‏”‏، “‏لقد‏ ‏كنت‏ ‏فيما‏ ‏مضى ‏متحمسا‏ ‏لساندور ‏ ‏رادو‏ ‏ثم‏ ‏وجدت‏ ‏نفسى ‏أتحدث‏ ‏بلغة‏ ‏لايفهمها‏ ‏إلا‏ ‏تلاميذ‏ ‏ساندور ‏رادو‏ ‏وعددهم‏ ‏محدود‏…. – ‏ولكنى ‏فضلت‏ ‏أن‏ ‏أعود‏ ‏إلى ‏لغة‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏لأنها‏ ‏لغة‏ ‏منتشرة‏ ‏ويفهمها‏ ‏الكثيرون‏ ‏ممن‏ ‏أحترمهم‏ ‏وأستطيع‏ ‏التفاهم‏ ‏معهم‏”‏

ثم‏ ‏ينهى ‏خطابه‏ ‏بعد‏ ‏اعتراضات‏ ‏أخرى ‏كثيرة‏ ‏قائلا‏:‏

قبل‏ ‏أن‏ ‏أنام‏ ‏أقول‏: ‏نعم‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏أكتب‏ ‏وأن‏ ‏تكتب‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نتحدث‏  ‏بل‏ ‏نتعارك‏ ‏أحيانا‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نتفاعل‏ ‏وجها‏ ‏لوجه‏، ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏نجابه‏ ‏مشكلة‏ ‏حية‏ ‏نتحدث‏ ‏عنها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نغرق‏ ‏فى ‏النظريات‏ ‏ولابد‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏بوجدانك‏ ‏فى ‏كتاباتك‏ ‏وألا‏ ‏تعتذر‏….. ‏وأقول‏ ‏أنى ‏معك‏ ‏ولست‏ ‏معك‏… ‏وليكن‏ ‏هذا‏ “‏علم‏ ‏وصول‏” ‏لحديث‏ ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏يستمر‏         “‏محمد‏”‏

وسكت‏،

هكذا أرسلت‏ ‏إلى ‏بييبر‏ ‏فى ‏باريس‏… ‏ولم‏ ‏يرد، كما  أرسلت‏ ‏إلى ‏محمد‏ ‏فى ‏أمريكا‏… ‏ورد‏ ‏على بهذا‏ ‏الدش‏ ‏البارد‏، ‏أو‏ ‏أقول‏ “‏الفاتر‏” ‏لما‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏حب‏ ‏وصدق‏..‏

وسكت‏ ‏طويلا‏ ‏حتى ‏جاء‏ ‏العيد‏ ‏فأرسلت‏ ‏له‏ ‏خطابا‏ ‏حارا‏ ‏كان‏ ‏فيه‏:‏

‏”‏عزيزى ‏محمد‏: ‏كل‏ ‏سنة‏ ‏وأنت‏ ‏طيب‏، ‏وأنت‏ ‏حر‏، ‏وأنت‏ ‏خالق‏، ‏وأنت‏ ‏نفسك‏، ‏وأنت‏ ‏مستيقظ‏، ‏وأنت‏ ‏محبوب‏، ‏وأنت‏ ‏تحب‏، ‏وأنت‏ ‏تغنى ‏وتنطلق‏، ‏وأنت‏ ‏قوى، ‏وأنت‏ ‏مسئول‏، ‏وأنت‏ ‏شريف‏، ‏وأنت‏ ‏إنسان‏، ‏وأنت‏ ‏تتطور‏، ‏وأنت‏ ‏حى….‏

وصلنى ‏خطابك‏ “‏ضد‏ ‏الأمخاخ‏” ‏ورفضت‏ ‏أغلب‏ ‏ماجاء‏ ‏فيه‏ ‏وجمعت‏ ‏فيه‏ ‏من‏ ‏التناقضات‏ ‏ما‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليه‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالرد‏ ‏عليك‏، ‏ثم‏ ‏أغرانى ‏بالحديث‏ ‏عنك‏.‏

وفيه‏ ‏قلت‏:‏

‏”‏لقد‏ ‏رفضت‏ ‏اللغة‏ ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏بلغة‏ ‏الأغلب‏: ‏المحللين

وهاجمت‏ ‏الأبحاث‏… ‏ثم‏ ‏استشهدت‏ ‏بنتائجها‏ !‏

ورفضت‏ ‏التشخيص‏… ‏ثم‏ ‏تمسكت‏ ‏برموز‏ ‏النظريات‏ ‏السائدة‏ !‏

ورفضت‏ ‏المخ‏… ‏خوفا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏تسجن‏ ‏فى ‏خلاياه‏ !‏

وحاولت‏ ‏أن‏ ‏تتحرر‏، ‏وخيل‏ ‏إليك‏ ‏أنك‏ ‏نجحت‏… ‏ولكن‏ ‏الحرية‏ ‏صعبة‏ ‏صعبة‏، ‏فأنت‏ ‏تتردد‏ ‏وتحاول‏ ‏أن‏ ‏تميل‏ ‏تحت‏ ‏مظلة‏ ‏تحتمى ‏بها‏، ‏والمظلة‏ ‏ليست‏ ‏قفصا‏ ‏مثل‏ ‏قفصك‏ ‏القديم‏، ‏ولكنها‏ ‏وقاية‏ ‏مما‏ ‏يأتى ‏من‏ ‏السماء‏، ‏من‏ ‏المجهول‏… ‏ولكن‏ ‏إلى ‏متى ‏تظل‏ ‏رافعها‏ ‏فوق‏ ‏رأسك؟‏ ‏ثم‏ ‏كيف‏ ‏تستعمل‏ ‏يديك؟‏ ‏وكيف‏ ‏تنطلق؟‏ ‏لتنطلق‏ !‏

نعم‏…‏

لابد‏ ‏من‏ ‏آخرين‏، ‏ولكن‏ ‏ليس‏ ‏دائما‏ ‏أصحاب‏ ‏لغة‏ ‏لفظية‏ ‏وإنما‏ ‏أصحاب‏ ‏مشاعر‏ ‏وقلوب‏ (‏قلوب‏ ‏مخية‏ ‏أيضا‏)، ‏وفيما‏ ‏أعلم‏ ‏فلم‏ ‏ينجح‏ ‏إنسان‏ ‏وحده‏”‏

 ثم‏ ‏قلت‏ ‏له‏:‏

‏”‏قيود‏ ‏الأرض‏ ‏غائرة‏ ‏فى ‏جوفها‏ ‏وهى ‏تجذبك‏ ‏إليها‏، ‏وأنت‏ ‏تحن‏، ‏وتخاف‏، ‏وقيود‏ ‏التحليل‏ ‏النفسى ‏تأمن‏ ‏فى ‏رحابها‏… ‏ولكنها‏ ‏تتسلل‏ ‏إلى ‏فكرك‏ ‏فى ‏براءة‏ ‏ظاهرية‏، ‏وتوهمك‏ ‏أنها‏ ‏مفاتيح‏ ‏تفتح‏ ‏الأقفال‏، ‏وأنت‏ ‏فى ‏سكرة‏ ‏الأمان‏، ‏وأنت‏ ‏تحمل‏ ‏كومة‏ ‏المفاتيح‏، ‏تنسى ‏أن‏ ‏المفاتيح‏ ‏تقفل‏ ‏الأقفال‏ ‏أيضا‏ ‏ولا‏ ‏تفتحها‏ ‏فقط‏، ‏وأنت‏ ‏تعلم‏ ‏أنى ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏رجوعك‏، ‏ومازلت‏، ‏ولكن‏ ‏حرصى ‏اليوم‏ ‏لسبب‏ ‏آخر‏ ‏غير‏ ‏زمان‏، ‏لأنى ‏زمان‏ ‏كنت‏ ‏حريصا‏ ‏على ‏قسم‏ ‏الأمراض‏ ‏النفسية ‏وعلى ‏مصر‏، ‏وعلى ‏صديق‏ ‏شريف‏، ‏أما‏ ‏الآن‏ ‏فأنا‏ ‏حريص‏، ‏على ‏إنسان‏، ‏فلربما‏ ‏كان‏ ‏وجودك‏ ‏معنا‏ ‏خطوة‏ ‏على ‏الطريق‏ ‏التطورى ‏لنا‏ ‏جميعا‏.‏

وأنت‏ ‏تسأل‏: ‏هل‏ ‏الجلسات‏ ‏الصباحية‏ ‏التى ‏أشرت‏ ‏إليها‏ ‏من‏ ‏معلم‏ ‏لتلاميذ‏ ‏أم‏ ‏من‏ ‏ند‏ ‏لند؟‏ ‏وأنا‏ ‏أجد‏ ‏عندى ‏الشجاعة‏ ‏الآن‏ ‏لأقول‏ ‏إن‏ ‏رؤيتى ‏‏الآن‏ ‏تجعل‏ ‏الصدق‏ ‏أساس‏ ‏التفاهم‏ ‏وليس‏ ‏كم‏ ‏المعلومات‏، ‏وتجعل‏ ‏الحرية‏ ‏الذاتية‏ ‏هى ‏الوسيلة‏ ‏الأولى ‏لتقييم‏ ‏الرأى ‏وليست‏ ‏الحجج‏ ‏والبراهين‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏فإنى ‏لا‏ ‏أجد‏ ‏الصدق‏ ‏والحرية‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏الشباب‏ (‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏أعمار‏ ‏شهادة‏ ‏الميلاد‏) ‏وإنى ‏بعد‏ ‏تجربتى ‏الأخيرة‏ ‏لست‏ ‏مستعدا‏ ‏بحال‏ ‏أن‏ ‏أضيع‏ ‏عمرى ‏فى ‏مناقشات‏ ‏بيزنطية‏ ‏تستعرض‏ ‏فيها‏ ‏العضلات‏، ‏أو‏ ‏يحمى ‏بها‏ ‏المناقش‏ ‏نفسه‏ ‏من‏ ‏أصالته‏، ‏أو‏ ‏يحصل‏ ‏بها‏ ‏المناقش‏ ‏على ‏شبق‏ ‏فكرى ‏زائف‏، ‏وإنما‏ ‏أنا‏ ‏مستعد أن‏ ‏أبذل‏ ‏عمرى ‏مع‏ ‏إنسان‏ ‏حر‏ ‏صادق‏ ‏تثيرنى ‏اعتراضاته‏ ‏فأجد‏ ‏بها‏ ‏ذاتى ‏وأنير‏ ‏بها‏ ‏فكرى، ‏ويثيره‏ ‏هجومى ‏فيستيقظ‏ ‏ويرفض‏، ‏ويتعرى ‏بلا‏ ‏خجل‏… ‏والإنسان‏ ‏الذى ‏حل‏ ‏مشكلته‏ ‏بين‏ ‏الكتب‏ ‏والأبحاث‏، ‏الذى ‏يعشق‏ ‏حروف‏ ‏المطبعة‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏نبض‏ ‏الإنسان‏ ‏يصعب‏ ‏على ‏أن‏ ‏أثير‏ ‏فيه‏ ‏تساؤلات‏ ‏الوجود‏ ‏والكون‏ ‏والخلق‏، ‏وربما‏ ‏كانت‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفروق‏ ‏هى ‏التى ‏تميز‏ ‏الانجليز‏ ‏عن‏ ‏الفرنسيين‏، ‏والعلم‏ ‏الهندسى ‏عن‏ ‏الفلسفة‏ ‏الصوفية‏، ‏والأرقام‏ ‏عن‏ ‏الموسيقى… ‏الخ‏، ‏والزميل‏ ‏العالم‏ ‏الحافظ‏ ‏المنظم‏، ‏أحترمه‏ ‏كما‏ ‏أحترم‏ ‏الأسمنت‏ ‏المصنوع‏ ‏منه‏ ‏برج‏ ‏الجزيرة‏، ‏وأحبه‏ ‏كما‏ ‏أحب‏ ‏عمارة‏ ‏بلمونت‏، ‏وأقدر‏ ‏كفاحه‏ ‏كما‏ ‏أقدر‏ ‏مهندس‏ ‏السد‏ ‏العالى… ‏وفقط‏- ‏من‏ ‏أجل‏ ‏ذلك‏ ‏فأنا‏ ‏أحتاج‏ ‏من‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أتكلم‏ ‏معه‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أنطق‏، ‏وقد‏ ‏وجدت‏ ‏منهم‏ ‏الكثير‏ ‏هنا‏ ‏بين‏ ‏الشباب‏ ‏خاصة‏، ‏لأنه‏ ‏كما‏ ‏يقول‏ ‏العرب‏ “‏من‏ ‏طلب‏ ‏شيئا‏ ‏وجده‏”‏

 ثم‏ ‏قلت‏ ‏أخيرا‏:‏

لست‏ ‏أدرى ‏كيف‏ ‏بدأت‏ ‏الخطاب‏ ‏وكيف‏ ‏أنهيه‏، ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أدريه‏ ‏أنى ‏أحمل‏  ‏فى ‏نفسى ‏هذه‏ ‏الأيام‏ ‏ومنذ‏ ‏إبريل‏ ‏الماضى ‏طاقة‏ ‏هائلة‏ ‏من‏ ‏الحب‏ ‏تكاد‏ ‏تغمر‏ ‏العالم‏ ‏كله‏، ‏طاقة‏ ‏تكاد‏ ‏تصنع‏ ‏الحياة‏، ‏طاقة‏ ‏تتحدى ‏الجنون‏، ‏وتشرق‏ ‏كالشمس‏ ‏بين‏ ‏جنبى ‏وتضئ‏ ‏وتدفئ‏ ‏وأحس‏ ‏أننا‏ ‏لو‏ ‏كنا‏ ‏جماعة‏ ‏لعملنا‏ ‏شيئا‏.. ‏ربما‏.. ‏بل‏ ‏حتما‏..‏

وأخيرا‏ ‏لك‏ ‏ماتشعر‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الكلمات‏”‏

****

وبعد

لن أعتذر لهذا الاستطراد الآن، فقد وصلنى منه شخصيا تاريخا كنت نسيته،

وإلى لقاء.

[1] – (وقد ثبت فيما بعد أن تخوفى كان فى موضعه إلى حدّ ما)

[2] – ولعل الأوان قد آن حالا بهذه المحاولة المستمرة.

[3]  – بعد قهر العصر الفكتورى

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *