الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (84) الإدراك (45) “العين الداخلية” (16) و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات”(15)

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (84) الإدراك (45) “العين الداخلية” (16) و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات”(15)

نشرة “الإنسان والتطور”

13/6/2012

السنة الخامسة

 العدد: 1747

 29-5-2012

الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (84)

الإدراك (45)

“العين الداخلية” (16)

و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات”(15)

Information Processing

انتهت الحلقة قبل السابقة (الأسبوع الماضى) كما يلى:

د.يحيي: …… مش أنت لوحدك اللى حاتقوم بيه، إحنا سوا سوا، دى وظيفتنا، ثم إنك انت لو خفّيت صح، طبعا ده حاينفع الناس، بمعنى إنك انت لما تخف يبقى لك شكل وحضور حلو يوصَلْ للناس، يقوم الخير يزيد والمجرى ما يمتليش قوى كده بالشكل الملخبط ده، والباب ما يتكسرشى وحاجات من دى

رشاد: إزاى ده يوصل للناس

د.يحيي: حايوصل عادى للشخص الطيب الجدع،  الشخص الجدع بيلقطه لوحده،  وأنت جدعنتك اللى حاكلمك  فيها واحنا بناخذ القرار، حاتبان، بس  يعنى بعد كل الهيصه اللى عملتها فى حياتك دى ، لسه جدعنتك عايزة شغل، الظاهر هى كانت جدعنة من بره بره، كانت جدعنة بتتنطط، وبرضه كانت عمرها قصير بعد كل نطة، والثلاث عيوب دول بيخلوا الجدعنه مش جدعنه، أول حاجة فى “الإعداد” اللى احنا بنعمله دلوقتى إن نـَفـَسْـنا يبقى طويل كفاية، والمسألة عايزة صحبة بحق وحقيق،  عشان تستمر.

…….

…….

ثم نكمل اليوم

د.يحيي: (…) نرجع للى أنت قلته للدكتورة “م”، نفس الكلام تقريبا، بس بألفاظ تانية (يقرأ): بتقول:

 “…يا دكتوره لما باعيد الكلام باحس إن  فكرى إتاخد منه حاجه”

 أنا بيتهيألى إن دى حاجة قريبة من إن  حد بيشد دماغك ، ومن التعب اللى بيجيلك وانت بتتكلم، والحاجات دى، حانشوف الأحاسيس دى كلها إيه اللى يربطها ببعضها.

 (*) إشارة جديدة إلى الفرض الأساسى عن إبطاء عملية فعلنة المعلومات مع احتمال رصدها بالسرعة البطيئة بالحاسة الداخلية، ويمكن ربط ذلك بالتشبيه الذى ورد أمس، والنقلة من مطاردة القط والفأر إلى تحدى الغزال للدينصور، وهذا له علاقة بدوره بما ذهبنا إليه من فرض أن رشاد اصبح قادرا على أن يرصد حركية “معالجة المعلومات” بالسرعة البطيئة سواء فى سيرها السوى أو فى انحرافاتها وتصادماتها الجديدة

رشاد: لأ هى الفترة اللى فاتت ديه كان أى حد يقول لى أى حاجة باحس أن أنا باعيد الكلام،  المفروض يكون عادى أنى أعيد الكلام عادى،  بس كنت أحس أن ده بيسيب أثر عندى، فيه  تعب غريب فى الحكاية دى

د.يحيي: أيه اللى يتعب فى إنك تعيد ، بيحصل إيه؟

رشاد: ده شئ طبيعى،  المفروض إنى أعيد الكلام مافيش أى حاجه خالص

د.يحيي: إمال إيه اللى بيحصل لك؟  حاول تشرح عشان أفهم

رشاد: باحس زى ما يكون فيه شق بسيط

د.يحيي: “شق” فين تانى؟!!

رشاد: فى العقل برضه ما هو كله فى العقل

د.يحيي: حانرجع تانى للشق والخرم والحاجات دى

(*) ما زال رشاد قادرا على أن يصف ما يقرّبنا من جديد إلى فرض انفصال عمل نصفىْ المخ الكرويين، وعدم تناغمهما معا، بحيث يمكن أن نقرأ هذه الشكوى الجديدة باعتبارها إشارة إلى “فرق التوقيت” بين عمل النصفين ولو بجزء من ثانية، ونلاحظ هنا كذلك تعبيره أن هذا امر طبيعى، (ده شىء طبيعى) وكأن كل ما زاد مع بداية المرض هو أنه اصبح يرصده،

 وهكذا يمكن أن نطور الفرض لنتصور أن النصفين الكرويين فى الأحوال العادية لا يقومان بنفس العمل (دع جانبا الآن الاختلاف النوعى فى الوظائف، وإنما نحن نشير إلى معالجة المعلومات والإدراك) فى نفس الجزء من الثانية، لكن الشخص العادى لا يرصد ذلك أصلا، أما فى حالة الشق الوظيفى للجسم المندمل(1) أو ما يوازيه، مع إبطاء العملية ، فإن وصف رشاد ينطبق على هذا الاحتمال برغم إقرار رشاد – مرة أخرى–  أن ده أمر مفروغ  منه “ده شئ طبيعى،  المفروض إنى أعيد الكلام مافيش أى حاجه خالص” إذن فمم الشكوى؟ يضيف ما يشير إلى أنها متعلقة بهذا التباين بين عمل النصفين بما يعبر عنه بأنه “شق بسيط”، وحين يضغط عليه الطبيب ليزيد الأمر وضوحا يكتفى بأن يعلن أن هذا يجعله يشعر أنه “ليس طبيعيا”،

وبرغم تكرار هذه الشكوى من رشاد بصور مختلفة، إلا أن المتابع معنا لا بد أن يلاحظ أنه فيما عدا الوصف الدقيق للصعوبة والأحاسيس المصاحبة لكل الجارى، وبتفاصيل التفاصيل، إلا أننا نلاحظ أنه لا يوجد شىء غير طبيعى يمكن أخذه على تسلسل تفكيره ووصفه لحالتنا، فهى خبرة ذاتية صرف، لكنها شديدة الموضوعية (التعبير مقصود لو سمحتم)

رشاد: هو ما باحسش إن أنا باقول الكلام طبيعى

 (*) لا يقتصر شعور رشاد بغرابة الوظائف المعرفية برغم سلامة الأداء، على التلقى والإدراك، وإنما يمتد إلى ما أسميناه ذراع الإخراج  Afferent  بعد الهضم والتمثل فى عملية فعلنة (معالجة) المعلومات، مع ملاحظة قدرة رصد هذه المرحلة أيضا بالعين الداخلية حالة المرض (والإبداع!!).

د.يحيي: أنا حكيت للدكاترة أظن بعد ما مشيت المرة الأولانية عن واحد عيان كان بيبذل جهد إرادى كإنه بيزق السطر وهو بيقرأ عشان يخش مخه، أنا شايفك يا رشاد بتعمل العكس بالظبط، إنت بتبذل جهد عشان الكلام يتقال، خصوصا لو كان متَعادْ؟ هل ده صحيح

رشاد: لأه

د.يحيي: طب قوللى إيه الصحيح

رشاد: زى مثلاً يا دكتور وانت بترتب أى مجموعه ورق،… تمام!؟ تيجى تسحب الورقه اللى هى فى النص، تسحب منها مثلاً ورقه من النص، تقع منك، عشان ترجعها تانى تاخد وقت

(*) رفْضُ رشاد موافقة الطبيب على القياس بالمثل الذى طرحه نقلا عن المريض السابق الذى جاء ذكره فى نشرة سابقة (بتاريخ: 1-5-2012) له دلالة مهمة فى نفى احتمال “الإيحاء” الذى يقفز إلى أى متابع لنا لا يستطيع أن يتابع ما لا يفهمه كما اعتاد، فيضع باستسهال احتمال الإيحاء ، ثم يكمل رشاد ما هو أهم فيما يتعلق “بذراع الإخراج” ويشرح صعوبة أو خطأ انتقاء الوحدة المعرفية/المعلومة المناسبة لإتمام هذه الخطوة من عملية المعالجة،بقوله “أنه يريد أن يرجع الورقة”، فقد يكون ذلك ضمن تفاصيل عملية الانتقاء والمراجعة، وهو يعلن هنا أنه يفشل أن يعيد تنظيم الأوراق (المعلومات) لتكوين الفعل أو الأداء أو التشكيل الهادف فى لحظة معينة

د.يحيي: كده؟ الظاهر أنا فهمت حاجه تانيه مهمة برضه، طيب ،ننتقل لحاجة من اللى انت قلتها برضه، بتقول (يقرأ):

“التليفزيون كانت ذبذباته بتسبب لى حاجات معينة، مش قادر أشرحها..، صداع”

  أنهو برنامج كان بيسبب لك صداع

رشاد: التليفزيون كان بيعمل زى الإريال لما تيجى تظبط التليفزيون،  باحس إن فيه وشوشه شويه،  فالوشوشه ديه كانت بتجيب عندى أنا صداع

 (*) برجاء مراعاة عدم اختزال كلمة صداع هنا إلى الاستعمال الشائع (انظر نشرة21-4-2009) الحلقة الأولى من هذه الحالة فيما يتعلق بما أسميناه المُراق الرأسى Cephalic  Hypochondriasis (نشرة: 25-4-2012)(2)، ثم دعنا نذكر مرة أخرى بأن العين الداخلية ليست عينا ، وإنما هى عضو “حسى شامل”، وكلمة وشوشة هنا أقرب إلى حس السمع، لكنى أفضل ألا أسميها الأذن الداخلية، لأن الحس الداخلى ليس مقسما – على حد فروضى – حسب الحواس الخمس خصوصا فى مرحلة البداية النشطة المستمرة مثل حالتنا هذه الميئة بالأحاسيس الكلية المتنوعة كما يصفها رشاد.

د.يحيي: ماشى، بس بتقول برضه (يقرأ): “باحس إن فيه حاجه بتتغير فى فكرى، إن فيه حاجه بتتشد”

إيه هى ديه بقى؟

رشاد: أه، ده اللى بيحصل

(*) نلاحظ أن موافقة رشاد تكون جاهزة أكثر حين يكون المقتطف من كلامه هو أكثر من فروض وشروح الطبيب.

د.يحيي: (للحضور) طيب أنا كده خلصت تقريباً، حد عايز حاجه قبل ما أقول لرشاد كلمتين على السفر ومش السفر.

رشاد: هو أنت زعلت الأول من الورقه اللى انا طلعتها، وكنت محضرها، وفيها الأسئلة ؟

د.يحيي: بالعكس دى  كانت واضحه جداً، وضّحت بعض الأمور،  حازعل ليه

رشاد: بس حاسس كده إنك اتغيرت

د.يحيي: بس إحساسك ده جالك ازاى

رشاد: حسيت إنك اتشديت شوية، الابتسامه بتاعتك راحت

د.يحيي: ما أظنش، إنت من حقك تسألنى زى ما انت عايز، إنت سألت وانا جاوبت، و أنا سألت وانت جاوبت، إنت تسأل اللى انت عاوزه حتى غير الأسئله اللى كانت فى الورقة،  تسأل فى  حالتك،  فى السفر،  فى العلاج،  فى ربنا، فى قله الأدب،  فى الأباحه، فى البنات،  اللى احنا زوغنا ما أتكلمناش عنهم.

(*) نلاحظ هنا كيف يلاحظ المريضُ الطبيبَ، وكيف يرصد تغيرات انفعالاته من تعبيرات وجهه، وكيف أن العلاقة توثقت حتى سمحت بهذه التلقائية المهمة، وهذه المراجعة الصريحة، الدالة على نمو المواكبة.

(……………..)

(…………….)

رشاد: طيب هو أنا ليه يا دكتور حصل لى كده ؟

د.يحيي: أولاً أهوه امتحان، وقضاء وقدر، ولازم كان فيه تحويدة صغيرة كده وكْبِرت

رشاد: حصل، بس يعنى ازاى

(*) تعبير “تحويده صغيرة كده وكبرت” يشير إلى أنه بالرغم من ظاهر إزمان المرض إلا أنه مازال فى مرحلة نشطة، وأن الانحراف عن السواء وتفكك الواحدية يبدأ صغيرا (وهو يتكرر فى الأحلام) فإذا تمادى بغير رجعة أو إعادة تشكيل، فإنه يكبر إلى مزيد من الإعاقة والمعاناة (المرض) ثم يكمل الطبيب الشرح ردا على سؤال رشاد “بس يعنى إزاى؟”

د.يحيي: أنا باتكلم عن كفاحك اللى من بره بره، جدعنه وطموح، جدعنه وطموع، وما كانشى ده بيصب فيك، ما كانشى بيملاك، والحاجات ما كانتشى بتتوصل ببعضها، فعملتْ  قشره كبيرة جامدة حواليك، جامدة صحيح، شكلها حلو، بس ناشفه خالص، جيت حوِّدت انت على الكورة، وهات يا طموح برضه، بس كان الطموح ده شديد  قوى المرة دى،  وباين كان له معانى كتيرة عندك، رحت متقرطس بعد ثوانى من تصورك إنك حاتقطف التفاحة، راحت القشرة الجامدة الناشفة مطأطأة، رحت متمزع من جوه، حصل الشق، والخروم، واللى جوه نط برة، الدنيا اتقلبت عاليها فى واطيها بعد ما الباب اتكسر، كل ده وانت لامم الأمور على قد ما تقدر، وشايف وشايف وشايف ولوحدك، أظن إن ده اللى حصل يا ابنى واللى انت بتعمله دلوقتى، واللى احنا بنعمله معاك، هوه مش  تصليح، ولحام، هوه إعادة تنظيم وسماح، زى ما أنت قلت على حكايه ورقة من النص تقع منك، مش انت قلت كده؟ وبعدين قلت عشان ترجّعها تانى تاخد وقت، أهوّ احنا بنعمل كده دلوقتى بنحاول إن كل حاجه تتحط فى مكانها على الله ربنا يسهل، ويلضموا فى بعضيهم  لضمه زى اللبانه ما كانت ماسكه فى بعضيها قبل ما نشدها ساعة الشق نصين، زى ما قلت إنت. ما هو الواحد عايش أزاى،  السليم يعنى مش الشخص العادى، ما هو فيه فرق،

رشاد: يعنى إيه؟ أنا فاهم شوية، بس يعنى إيه؟

(*) مرة أخرى نلاحظ اجتهاد رشاد فى محاولة التتبع والفهم دون التسليم بالموافقة الجاهزة.

د. يحيى: أنا باتكلم عن  السليم السليم خلقة ربنا، السليم مرن  زى اللبانه كده كل حاجه متماسكة ومتحركة فى نفس الوقت،  كل حاجه محطوطه مطرحها وفى نفس الوقت داخلة فى بعضيها وبتتلف وتطرى وتتفرد زى ما انت قلت عن اللبانة، بس ما فيش حد بيشدها من طرفها ده قصاد حد تانى بيشدها من الطرف التانى، اللبانة ما بتتشقش نصين  بسهولة يا رشاد  إلا لما بتنشف،  وبعدين بقى لما الحكاية تتفندق، تَبقى سنة سوده،  لكن انت ما اتفندقتش على الواسع، انت لقطـّها وهى بتتشقق، قعدت تشوف وتحكى، وتشوف وتحكى، ولا حد واخد باله، والمِجرى تتملا وتُطفّ ورا المِجرا، والأوَض تفضى وتتملا، والباب ما يفتحشى بعد ما مُفتاحه ضاع، ييجى مجهول يكسره، وكل ده يا ابنى إنت قلته وشايفه، وانا باستعمل ألفاظك زى ما انت شايف،  التركيبة دى لما باظت خربت النظام اللى كان بيتعامل مع الحاجات اللى بتخش المخ اللى انت سميتها العلم والعمل باين، ، مفروض إن اللى بيخش ده يقعد يتنظم طول العمر، مرة فى الحلم، ومره فى العلم (اليقظة) ، مره فى قله الأدب، ومرة فى الأدب،  فاتلاقيه عمال يتعاد ترتيبه ، حتى لو رتبناه غلط، يتبقى فيه فرصة وفرصة وفرصة نصحح الترتيب بانتظام، معايا؟

(*) هذا الشرح ربما يوازى عملية “معالجة المعلومات” مع اعتراف الطبيب بجهله بتفاصيلها وخطواتها ونظرياتها، لكنه يحاول أن يوصلها لرشاد، وربما الذى شجعه على ذلك هو رشاد نفسه ونوع تلقيه (ومازلت فى انتظار تعليق من يعرف أكثر من طبيعة تفاصيل هذه العملية أو العمليات الحاسوبية المقابلة).

رشاد: بأحاول

د. يحيى: أغلب الناس العاديين ، بتتغطى بالقشرة وتلمعها ، وتبعد اللى جوه جوه قوى، وسلامتك وتعيش، وده مش عيب ما دام  مستوره و القشره جامده وقايمة بالواجب، أما لو القشرة تنشف، والاوض تتملا وتطف، والباب يتكسر، فخد عندك خصوصا لو حصلت خبطة جامدة زى حكاية عدم اختيارك فى فريق الكوره، تروح  القشره الجامده قوي قوى دى، تروح مشروخه، يبان بقي الغلط اللي كان موجود، ما نستسلمش بقى، والورق يتلخبط على بعضه، وتقفز مننا الحاجات تتنطط زى ما تكون ما صدّقت،  الغلط بيبان بقى بس مش بسهوله لأه، دا مره يسحبنا علي قلة الشغل، ومره يسحبنا علي كثرة النوم ومره يسحبنا علي الشك، نيجى نكتشف الحكاية زى ما بنعمل دلوقتى، نقبل ده كله،  ونبتدي نلمها واحده واحده، إيشي بالدواء وايشي “بالإعداد” اللى بتقول عليه، واللى لسه ما فهمناهوش قوى، يعنى، أهو ده جوابى عن سؤالك عن اللى حصل، ومش ضرورى يكون صح قوى، بس ده هوا اللى وصلنى من اللى احنا شفناه سوى كلنا.

 (*) لم أستطع أن أتأكد أى قدر من هذا التفسير وصل للمريض، وأيضا لست متأكدا إن كنت أقصد آنذاك بتقديم هذا الشرح المطول الذى يمكن أن يعتبر أقرب إلى  “التحليل التركيبى”، لأبيّن فروض الإمراضية (السيكوباثولوجى) للمريض أم للحضور من المتدربين، إلا أننى الآن وأنا أعيد قراءة النص رجحت أن خطابى كان أساسا لرشاد، وأنه محاولة مبسطة لشرح الفرق بين “العادية”، و”السواء” وأيضا محاولة شرح أساسيات آليات عملية “معالجة المعلومات” وخطوات العلاج، كما بدا لى الآن أن رشاد كان يتابعنى بشكل سمح لى بالتمادى فى وصف الإمراضية (السيكوباثوجى) بالطول والعرض بهذا الشكل، والملاحظ هنا أيضا أن رشاد لم يدّع الفهم الكامل، ولم يبادر بالموافقة  بشكل تلقائى على ما قدمه الطبيب من شرح مفصل، وهذا يؤكد ما ذهبنا إليه حالا من أنه شخص ليس سهل الاستهواء أو جاهز للتبعية أو حتى المجاملة ، ثم إنه بعد رضا الطبيب بتحفظه فى الإجابة “باحاول”، سأل سؤالا بدا كأنه يريد أن يترجم ما سمعه إلى لغة أبسط يستطيع أن يفهمها، فسأل:  

رشاد: يعني هو ممكن نقول تفكير زيادة؟

د.يحيي: جرى إيه يا رشاد؟!! إنت حاتعمل زى الدكاترة وتختصر الحدوتة اللى انا باحكى فيها بقالى نص ساعة فى كلمتين وانت عشتها 33 سنة، وتقول لى “تفكير زيادة؟” جرى إيه يا راجل وانت بتعلّمنا كل العلام ده،  تفكير إيه وزيادة إيه؟!! ،  اللي حصل ان الحاجه اللي كانت ماشيه مع بعضيها ما بقيتش ماشيه مع بعضيها، وادى احنا بنحاول نرجعها تمشى مع بعضيها بالدواء وبالعلاقه وبالعلاج وبربنا اللي هوا بيلم كله علي بعضه بحق وحقيق، بيلمنا علي بعضينا من ناحية بعضينا عشان نتلم ناحيته، إحنا وشطارتنا، هو مش بيلمنا زى جيش الشطرنج أو ورق الدومينو، لأه، هو بيهيأ لنا الوسائل اللي احنا نجتهد مع بعض عشان نتلم بيها،

(*) تبدو الجمل الأخيرة وقد غلب فيها استعمال أبجدية دينية بشكل مباشر، تبدو لأول وهلة جرعة دينية تقليدية، يمكن أن تسطِّح العمق الذى وصلت إليه العلاقة ومحاولة التفاهم، لكن واقع الحال من نوع ما ظهر من الشرح والتفاهم والتقارب، ومما سبق التنبيه إليه، أن هذه اللغة والأبجدية تستعمل فى هذا السياق من منطلق موضوعى أقرب إلى البيولوجى حسب ما ذكرنا من أن المجال الحيوى هو الوسيلة البيولوجية التى نتواصل من خلالها نحن البشر على مستويات عدة ننطلق منها إلى الوعى المطلق، لكن لا يوجد ضمان لتلقى المرضى هذه اللغة بجرعة مناسبة غير مغتربة، وخاصة فى ثقافتنا، مهما بلغت تجربة بعضهم مثل رشاد، لا يوجد ضمان أن يَتَلقى الشخص العادى، وكثير من المرضى، هذه اللغة على مستوى آخر غير المستوى التقليدى، ومع ذلك فلا يوجد مبرر لنفى احتمال أن يتم التلقى على المستويين معا، وكل  ذلك له علاقة أعمق بفروض عن غريزة التوازن المتصاعد لمستويات الوعى إلى المطلق نحو وجه الحق تعالى عبر شبكة العلاقات البشرية (الأسس البيولوجية للدين والإيمان).

(……………)

 د. يحيى:

نرجع لحكاية السعودية: انا خايف تروح هناك تلاقي نفسك لوحدك تركز في الطموح تانى، وبعدين طموحك ما يتحققش زي الكوره وزي المشاريع ترجع لنا مبهدل ياابني انت لوحدك مش حاتقدر تعمل حاجة، وربنا معاك صحيح لكن إحنا هنا مع بعض، تقدر تعتبر وجودنا جنبك من  الوسائل الضرورية فى المرحلة دى، يعنى إحنا والدوا، وسائل، اللي انا بقولهولك  ده طب وعلم ودين وربنا وكل حاجه مع بعض، بس خلّى بالك: وانت بتتلم حايظهر حزن حقيقى، مش ندم، ولا هم وغم، لأحزن نضيف بس بيوجع، ………..  مش زعل وزهقان وخنقة،  لأه،  حزن خلقة ربنا،  حزن مسئولية، (ينظر فى وجهه يحاول أن يرى )

رشاد: بس صعب صعب

(*) أعترف أننى تماديت فى الشرح ليس فقط بلغة التحليل التركيبى الإمراضى، وإنما تماديت فى عرض التخطيط العلاجى بما فى ذلك توقع المراحل الأصعب أثناء محاولة “الضمّ” لإعادة التآلف بين الاجزاء المتباعدة، والمعلومات المتنافرة، ومستويات الوعى المتعتعة، وهى عملية تتم بالتدريج وعلى مدى طويل إذا كان لها أن تتم بنجاح دون الاستسلام للإسراع باستسهال الإحاطة بجدار الكبت من الخارج فحسب، أو أساسا، وهنا أود أن أشير إلى أن أى علاج حقيقى يكون هذا هدفه (الضم والتآلف واستعادة الهارمونى لإطلاق النمو) يمر بمرحة حزن حيوى خاص هو الذى وصفه الطبيب هنا بأنه حزن حقيقى، مش ندم، ولا هم وغم، لأحزن نضيف بس بيوجع، … مش زعل وزهقان وخنقة،  لأه،  حزن خلقة ربنا،  حزن مسئولية، وتعتبر هذه المرحلة التى وصفها الطبيب بـ :الحزن الحقيقى: خلقة ربنا..”  مرحلة هامة برغم صعوبة رصدها، وصعوبة تميز نوع هذا الحزن من الأنواع السلبية، والوصول إلى هذه المرحلة ثم عبورها هو دليل على سلامة مسار العلاج على طريق استعادة إطلاق مسيرة النمو بمواكبة المعالج مع استعمال كل الوسائل المساعدة كما أشرنا. وبرغم أن الخطاب مازال موجه إلى رشاد أساسا، إلا أنه لا يمكن استبعاد جرعة تعليمية للحاضرين فى نفس الوقت، وقد تصور الطبيب أن الفكرة ، برغم صعوبتها وتفاصيلها قد وصلت إلى رشاد، برغم ما يحيطها من صعوبات، يبدو أننى فى تلك اللحظة حاولت قراءة وجهه الجاد ، وتصورت أن الفكرة وصلت، وأن رشاد تجهم لصعوبتها فانبرى يقول “ بس صعب صعب” ، ولا أنكر أننى فرحت بهذا التعقيب، لكننى استبعدت ولو قليلا أن تكون الصعوبة قد وصلته بهذا الحجم فسارعتُ أتأكد:   

د. يحيى: إيه هوه اللى صعب ؟ ما انا عارف إنه صعب

رشاد: صعب اقول لحضرتك دلوقتي ما اقدرش اسافر

د.يحيي: يا خبر!! أنا كنت فاهم إن تعبير وشك ده دليل على إن الكلام وصل لك، الشرح يعنى والحزن اللى مستنيك، الكلام بتاع الحزن النضيف، والحاجات دى، لا لا لا ، خلينى أقولها لك على بلاطة، انا بعد ما قريت الكلام الجديد اللى انت قلته، وبعد اللى حصل ده، بقيت مشغول عليك ياابني أكتر من الأول، أنا بابلّغك أهه: ان “الدم اللي جرى فيك” بعد ما سمعت الكلمتين اللى شاورت عليهم للدكتورة “م” أو بعد المقابلة الأولانية بالذات كلها على بعضها، بيطمـّنى شوية صغيرين، لدرجة إنى باحط احتمال إنك تنجح هناك رغم توصيتى بعدم السفر، بس احتمال بسيط، أنا  ابتديت أفكر في “الإعداد” حتى من غير ما افهمه قوى، وابتديت اتطمن شوية، ومعانا ربنا، بس لسه برضه رأيى إنك ما تسافرشى إلا لما يبقى احتمال أكثر من كده بكتير، ما تفكرشى إنها حداقة، انت وحيد، وحيد هنا ووحيد هناك، ومحتاج ناس ومحتاجين ربنا طول الوقت، صحيح  ربنا موجود في كل حته، بس الأدوات اللى هى احنا أو اللى زينا مش موجودة فى كل حتة

 (*) يبدو أن حماس الطبيب لعرض منظومة فروضه قد أبعدته عن واقع أولويات هموم واهتمام المريض الواقعية الملحة، وأنه حين تمادى فى وصف مسار العلاج ومراحله وصعوباته، نسى أو أزاح نسبيا أولويات اهتمامات وهموم المريض الواقعية كما ذكرنا، فتراجع بوضوح دون التخلى عن ربط مغامرة السفر باحتياج المريض للدعم والمواكبة مع التأكيد مرة ثانية على الوصلة الحيوية التى تجمع الفريق إلى بعضه البعض وهى “ربنا” بالمعنى السابق ذكره.

رشاد: انا وصلت لحاجه دلوقتي وانا قاعد معاك

د.يحيي: ايوه

رشاد: هم بيعملوا نظام عقد وبعد شهرين بالظبط عايز ترجع ترجع، ممكن نجرب دي لو انا تعبت حانزل بعد شهرين

د.يحيي: بعد الشر بعد الشر،  انا ما باحبش ده خالص انا باحب احرق المراكب ورايا عشان انجح،  لو الخرم ده موجود ورايح وانت فى مخك الاحتمال ده حاترجع متنيل ومهزوم، وما عدش ينفع حتى أى إعداد تانى، إنت تسافر يعنى تقعد هناك لحد ما تموت أوتخف، إنما تقول لى شهرين وان ما نفعتش ارجع، يبقى مش حاتنفع من دلوقتى، أهو ده خرم فى “الإعداد” فى حالتك ما حدش يقدر يسده،  أنا قلت للدكاترة أنا عندى عيانين باخليهم يقطعوا الباسبور فى العيادة، أو يطلعوا من العيادة على المطار، يا كده يا كده، أنا مش بتاع الكلام النص نص  ده.

 (*) لاحظ استمرار الطبيب  فى استعمال كلمة “إعداد” لأكثر من غرض، برغم إعلانه المرة تلو الأخرى أنه لم يفهم المقصود بها تحديدا، ولا رشاد عاد يشرحها أصلا، وهذه الطريقة كما أشرنا سابقا تتعلق بنشأة اللغة من جهة، كما أنها تُقَرِّب بين المعالج والمريض من جهة أخرى دون التوقف عند مرحلة التعريف والتحقيق،

 أما ما جاء عن هذا المأزق على طريق العلاج وهو الذى أسميه الآن بـ “حرق المراكب” بمعنى ألا توجد فرصة للسماح باختيار المرض كحل هروبى أو استسهالى فى ظروف ضاغطة، فإنه يقوم بنوع من الوقاية النسبية أو على الأقل تأجيل النكسة، وبقدر الثقة المتبادلة ومصداقية التعاقد، يقل تعرض المريض إلى نكسة أسرع، ومضاعفات أكبر (سبق أن شرحنا ذلك بالنسبة للعمال العائدين من العراق 22-5-2012) وتتوقف النتيجة على كيف يلتقط رشاد (وأهله) الضغط ويعترف بالصعوبة من جديد، ليس فقط صعوبة أن يلتزم بعدم الرجوع إلا فى الأجازة الاعتيادية، بمعنى أن يرفض النكسة كسبب للرجوع، ولكن أيضا – كما يعلن حالا-  صعوبة التخلى عن السفر من حيث المبدأ

رشاد: صعب عليا

د.يحيي: انا عارف، طبعا إنه صعب

رشاد: ما اقدرش ألغي السفر

د.يحيي: انا عارف ومصدقك ومحترم ده، لكن لما قريت التفاصيل بتاعة مشاريعك وفشلك وتكرار الحكاية دى خفت عليك أكثر، علي فكره كل مشروع دخلت فيه كان عندك نفس الحكاية،  حسبه صح، وطموح، وفرص، وخيبه، وفشل واقلــب

رشاد: أنا مش حاقدر أكمّل هنا فى مصر يا دكتور

د.يحيى: وأنا مش حقدر أمنعك، بس أنا حاقول رأيى بالظبط، ربنا هو اللى حايحاسبنى عليه، ويمكن أكون غلطان، إنما ده رأيى.

رشاد: مش حاقدر

د.يحيى: أنا ماقولتلكش لحد دلوقتى ماتسافرشى، أنا  قلت لك عن الخطر وحجمه يبقى نعمل برنامج عملى بالورقة والقلم، ده برنامج تنفيذى فيه ساعات نوم معينه وساعات اتصالات مع الدكتورة “م” إذا سمحت، أنا  معايا صعب الإتصال بس أهو ممكن ترتيب حاجة مع الدكتورة والسلام.

رشاد: ماشى يادكتور

د.يحيى: بس أنا لسه مش موافق على السفر، باعمل ده كله غصب عنى (………..) أنا مش شايف إن ده وقت مناسب للسفر، ومع ذلك أنا أقدر أعمل إيه؟

رشاد: مش عارف

(*) إعلان مسئولية الطبيب هكذا مهم بالنسبة لما يريد توصيله من رسالة والدية ترتبط بثقافتنا أكثر، ومن الواضح أن القرار صعب ، وأن تكرار النص (الاسكريبت) وارد أكثر من أى شىء آخر، ومع ذلك فى النهاية يسلّم الطبيب لاختيار المريض مع إصراره على إعلان رأيه مؤكدا مرة ومرات.

وإلى الأسبوع القادم، ربنا يسهل.

[1] –  Functional Callosotomy

[2] – (والاسم خطأ علمى لأنه ليس توهم وجع بالرأس وإنما بحسب الفرض الحالى هو رصد بالحاسة الداخلية (العين الداخلية) لعدم الاتساق).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *